
دراسة نقدية بقلم الكاتبة أميرة عبدالعزيز | القاهرة
“احرص على الموت، تُوهب لكَ الحياة” هكذا قال الخليفة أبو بكر الصديق…”
والحقيقة أنه كان يقصد بالموت (الموت المعنوي)، فإن أردت الخلود مُت عن نفسك أولاً مُت عن كل ما يبعدك عن معنى إنسانيتك، واعلم أنكُ خُلِقت لتتفاعل مع جميع مخلوقات الله وتتسع نفسك لتستوعب كل الكائنات التي خلقها الله عز وجل.
تعددت الأسباب والموت واحداً.. لكن ماذا عن عالم الروح.. هل لها رأي آخر..؟

أكيد.. فنحن نتعامل مع ملايين الأرواح..، فهناك أرواح مريضة، وأخرى فاقدة للوعي لا تدري ما الغاية التي خُلِقت من أجلها، وأرواح تغلب عليها الشر والحقد والغل والجشع الذي يدفعها للصعود إلى هاوية الجحيم والعذاب، وهناك أرواح نورانية شفافة تطهرت عن الكره والحقد وعاشوا محبين للخير وظلت سيرتهم عَطِرة بين الخلائق لأنهم عَرفوا الغاية التي خلقهم الله من أجلها.
وبعد الموت يبقى الجسد في الأرض التي جاء منها أما الروح تصعد إلى بارئها لأنها من أمر الله.. ولكن لابد أن تأخذ إذن وتصريح ولكن من من..؟! هذا ما أراد أن يقوله الكاتب سيد غلاب في مجموعته القصصية “إذن مرور إلى الأخرة” يتحدث عن الموت والحياة وعالم الروح من منظوره وبرمزية تجعلك تبكي من شدة ما يعانيه أبطال قصصه من الألم والقهر، وفي نفس اللحظة يكشف لك بسخرية مدى زيف الحياة فيُطلِعك على أفعال البشر والأسباب التى تقودهم إلى شن الحروب والقتال وتهوى بهم إلى الجحيم..، وهكذا تبدو أبطال قصصه التي تُحركها مآسي الحياة وصدماتها وتتأرجح ما بين الألم والأمل والحياة والموت.

لنبدأ بقصة “رحيل” المأساة التي بدأت ولم تنتهي مع العائلة التي رحلت عنهم الأم ورحلت معها البهجة في كل شئ.. وتَمَثَّل ذلك في ماكينة الخياطة التي صمتت عن الضجيج حزناً وعمَّ الظلام في المكان وبدا كأنه يرتدى وشاحاً أسود حتى رطوبة الجدران كانت دموعاً، وكلمات المعزيين باتت خنجرا يزيد جراحهم اتساعاً ونظرات الشفقة ما زادتهم إلا وجعاً.. “أحياناً يموت الإنسان وهو على قيد الحياة”.
يقولون إن الإنسان له نصيب من اسمه لكن مع سعيد حدث العكس.. في قصة “وصول سعيد الحزين.. الذي هرول إلى الموت!” فكان له نصيب من ميراث الدم الذي يرثه الأبناء ويتوارثه الأحفاد، إنها اللعنة التي لازمته طيلة حياته وأفسدتها فقرر أن يسافر ليخبر أهله أنه برئ ولم يقتل أحداً، فقُتِل هو في يوم وصوله ” لقد ابتعدوا وتنازعوا على الأرض وهم أحياء ولا يعلمون أنها المقبرة التي ستضمهم جميعاً وهم أموات..!
وهنا ينتقل الكاتب إلى نوع آخر من الرمزية عبر بها عن الموت “بالانفصال عن الواقع” والعيش في الخيال الذي تمناه المؤلف وبطل قصة “إذن مرور إلى الأخرة” إنه راضي الذي كان راضياً بحياته، يعيش مع زوجته تهاني التي تتفنن في إيذائه والتنمر عليه فأصبح جسدا بلا روح و ومن هنا قرر أن يعيش الحياة التي يتمناها في محراب كتبه ومؤلفاته، لكن زوجته لم ترض بذلك وزادت في التنمر عليه لدرجة جعلته يتمنى الموت وهنا جاء من كان يسترق السمع ويساعدها على إيذاء زوجها ليأخذ روح راضي الذي كفر بالحياة معها ليلقي به إلى هاوية العذاب..، ولأن الروح لها عالمها الخاص وفيها الملايين من الأرواح الذين يسمعون ويتكلمون بلغة خاصة بهم فقد عرفوا أن روح راضي محبوسة ومربوطة في سياج السرير المُلقى عليه جسده، فجاء صديقه هلال ومعه نجيب محفوظ وطه حسين ورفضت أن تسمع لكلامهم وتوسلاتهم لتترك روح راضي وشأنها تصعد إلى بارئها فنجيب قد أظهر أمينة في بين القصرين بضعفها وتسلط سي السيد عليها وطه حسين أظهر سذاجة آمنة في دعاء الكروان عندما أحبت مغتصب أختها بدلاً من الانتقام لها وسقطت في بحر الهوى، وتصيبهم الدهشة من التحول الغريب الذي أصاب المرأة تلك المخلوق الرقيق الذي كانا يدافعان عنه باستماتة حتى تغيرت من أجلها القوانين..، وانقلبت الموازين وأصبح الرجل هو المغلوب على أمره، وهنا تدخل ملائكة الرحمة لتقول كلمتها وترجح كفة ميزان حسناته فقد كان راضياً عفيف النفس شريفاً وأميناً، ولكن الزوجة التي رانت القسوة على قلبها وحجبت الإحساس والبصيرة عنها ترفض تسليم روح زوجها وتقبل بعرض زعيم ملائكة العذاب – وهو إن تركت لهم روح راضي سوف يجعلونها تحت أقدامها – وهذا في حد ذاته إقرار منها بأنها أغوته وألقت به في النار لذا سيكون مصيرها معه في النار، وهنا تستجمع ملائكة الرحمة قوتها وتقرأ “يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي رحمتي”، فتمتلئ الغرفة بالنور وتبتعد ملائكة العذاب وهم يدافعون عن أنفسهم فيرد الشيطان مدافعاً: لم يكن لي عليها أو على غيرها سلطان، “الأرواح النقية تأخذ إذن المرور إلى الأخرة بنقائها وصفائها”.
ونوع آخر من رمزية الموت عند الكاتب الذي يُجلب بالمرض والحزن ويبدل الأحوال من حال إلى حال وهذا ما توضحه قصة “لعنة عصفور” التي تصيب صاحبها وتسوقه إلى الموت.
أمم أمثالكم… ورمزية الموت عند الكاتب هنا تكون عن إرادة وحب وبطلها “اليعسوب” الذي يلاحق ملكة النحل الأوسع حيلة والأكثر ذكاءا غير مهتم بالمصير الذي ينتظره.
كما يتناول الكاتب الصراع الذي يحدث على أسباب صغيرة ومثيرة للسخرية – في نفس الوقت من خلال بطل القصة الذي يأخذ أجازة من عمله ليقوم برحلة إلى الصعيد حيث مسقط رأسه لكن من سوء حظه أن مقعده كان على الممر في منتصف الباص – وهذا الصراع يشبهه “بحرب البسوس” التي دامت أربعين عاماً وتركت اثراً كبيراً في التاريخ بسبب ناقة إمرأة البسوس التي قُتلت وحزنت عليها واشتعلت بسببها نيران الحرب بين أكبر قبيلتين آنذاك وهما (بنو تغلب وبنو بكر) وبعد أربعين عاماً من القتال اتفقت القبيلتان على وقف الحروب بينهما حقناً للدماء.. “قد يتسبب الغضب والعناد إلى دمار كبير في حين أن الحكمة والتعاون هما طريق السلام”.
وهنا يوضح الكاتب أن من يؤمن بحقه في الحياة الكريمة يعيش أو يموت دون ذلك فالحرية رمزاً للحياة والعبودية موتاً على قيد الحياة.
وأخيراً كم من أموات واراهم الثرى وهم أحياء بأعمالهم وتضحياتهم، وكم من أحياء يعيثون في الأرض فساداً.



