
بقلم: فاتن مرتضى| كاتبة وناقدة لبنانية
في الكتب التي تُكتب من الروح، لا تكون الصفحات مجرد مساحة للحبر، بل تُصبح موطناً آخر للحياة نفسها. هكذا يبدو كتاب “قمر على مركب الريح” لبديع صقور؛ ليس تجميعًا لقصائد متفرقة، بل خلاصة رحلة شعرية امتدت لثلاثة عقود كاملة، رحلة نضج فيها الشاعر وتحوّلت اللغة عنده إلى مرآة تعرف كيف تعكس الضوء والحياة في آن واحد. من الصفحة الأولى، يشعر القارئ أنه يدخل إلى عالم لا يشبه المختارات التقليدية، بل يشبه سيرة شعرية مكتوبة بالماء والضوء والذكريات، حيث تتجاور الذاكرة الشخصية مع التجربة الإنسانية، ويتحوّل المكان إلى كائن حيّ يسمع ، يتذكر وينادي.
العنوان: بين القمر والريح.. كتابةٌ على مركبٍ لا يرسو.

العنوان وحده يكشف الكثير من طبيعة هذه التجربة: فـ”القمر” رمز الضوء البعيد، ذاك الجرح الجميل الذي يضيء ولا يُمسّ. أما “مركب الريح”، فهو المركب الذي لا مرساة له، مركبٌ يتحرك بلا توقف، كأنه قدر الشاعر الذي لا يجد ثباتًا في الحياة إلا في الكتابة. هذان العنصران، الضوء والاهتزاز، يجسدان جوهر النصوص: شاعرٌ يكتب من مكان يتحرك فيه القلب أكثر مما يتحرك الموقع ، ويحمل في داخله ذكريات الأب، الأمكنة، والأزمنة التي تركت أثرها في ذاته. لقد استقى الشاعر هذا العنوان من تجربة شخصية عميقة، تشكّل قلب الكتاب العاطفي، ومن هذا القلب تنبثق كل المسارب الشعرية الأخرى، وكأن التجربة الأولى للحياة هي الشرارة التي أطلقت بقية القصائد.
فلسفة بديع صقور: الشعر بوصفه حنينًا ومعرفة
لا يقدّم بديع صقور في هذا العمل شعرًا يقوم على الزخرفة، بل شعرًا يقوم على الصدق؛ فالقصائد عنده ليست صناعة بل اعتراف روحي متدفّق. تقوم فلسفته الشعرية على فكرة جوهرية: أن الإنسان لا يتصالح مع العالم إلا حين يصغي إلى صوته الداخلي، وأن التفاصيل الصغيرة — رائحة القهوة، خطوات الأم، ظلّ نافذة، حجر في الطريق — تملك القدرة على حمل معنى أكبر من الكلمات نفسها. وبهذا الأسلوب، لا تُقرأ قصائده بوصفها لوحات منفصلة، بل بوصفها نظامًا للمعنى، تتجاور فيه الطفولة مع الذاكرة، والبيت مع العالم، واليوميّ مع الوجوديّ.
تظهر هذه الفلسفة في حِكَمِه التي تأتي كوصايا مُكثّفة، حيث يربط بين رفض الخنوع والاستواء، كما في قوله:«القامة التي لا تستوي/ لا تقترب من ضفتها / أدر ظهرك وهرول صوب الجبال/ التي لا تعرف الانحناء.»وتتجلى هذه الفلسفة واضحة في قوله:«لي أبٌ كان يضيء الطريق ولا يمشيه…»، وهنا تتجلى نظرته إلى الأب بوصفه ضوءًا معرفيًا، حضورًا مستمرًا في الغياب.وفي مقطع آخر تظهر قدرته على تحويل البساطة إلى دهشة:«مرّت أمي خفيفة كأنها لا تريد أن توقظ الغيم». إنّ هذه البساطة ليست تجريدًا بل حكمة. هي الفلسفة التي تتخفّى داخل اللغة، وتمنح القصيدة عمقًا لا يحتاج إلى ضجيج.
أثر السفر والغربة: من سوريا إلى سانتياغو ومن الذات إلى العالم
يحتل سفر الشاعر إلى سانتياغو – تشيلي موقعًا أساسيًا في تكوينه؛ فالغربة لم تكن عنده مجرّد انتقال مكاني، بل انتقال وجودي. كان معلّمًا هناك، محاطًا بثقافة جديدة، يتعرّف إلى الشعراء اللاتينيين، ويقرأ نيرودا وميسترال وباييخو، ويترجم بعض أعمالهم، ويصغي إلى أصوات المهاجرين العرب الذين يشبهون نصفه الآخر. هذه التجربة فتحت له أفقًا جديدًا، وجعلت لغته أكثر هدوءًا وعمقًا، وكأن القصيدة صارت تتنفس من رئتين: رئة سورية تحمل الحنين والماضي والأهل والشجر؛ ورئة لاتينية تحمل الانفتاح والطبيعة والحكمة البسيطة التي تقول الكثير بالقليل. لقد جعلته الغربة يسأل عن الهوية والتواصل مع الجذور حتى قال، مصوراً ذاته المتدفقة الثابتة الجوهر: «أعبرُ سهولَ اللهِ كنهرٍ عتيق/لأرويَ حقولَ القمح/لأغسلَ نهودَ الشقائق/كيفَ للقُبّراتِ أن تغتسلَ بنهرِ دمي/بعدَ أن تجفَّ الينابيع؟!»، وظل يسأل عن الهوية حتى قال:«أمشي… ووطني يتبعني مثل ظلّ يحفظني من السقوط.». هذا الظل هو الذاكرة. هو اللغة. هو ما أعاده إلى القصيدة كل مرة. ولذلك، جاءت نصوص الكتاب محمّلة باتساع واضح في الرؤية، وبنبرة إنسانية تتجاوز المحلي إلى الآفاق البعيدة. تميّز صقور هنا في المشهد السوري باختياره “الهمس” والتأمل كوسيلة، مغايرًا بذلك شعراء اختاروا الخطابية المباشرة عند تناول قضايا الوطن والغربة. وقد صقل احتكاكه بنزعة نيرودا التكثيفية والوجدانية أسلوبه، فبات يعتمد الرمزية الهادئة والمحكمة في التعبير عن الحنين، بدلاً من التصريح اللغوي المباشر عن الغياب.
تنوّع الموضوعات واتساع التجربة
يمتد الكتاب على مساحة واسعة من الموضوعات، لكنه يبقى مترابطًا بتوأمة الروح والذاكرة. يكتب الشاعر عن الحب، والوطن، والغربة، والموت، والأمومة. هذا التنوع يتجلى في عناوين تنقل القارئ بين أمكنة وأزمنة ومشاعر متباينة، من همس الحنين في “وصايا على شاهدة الريح”، إلى النبش في الذاكرة المكانية في “هنا كانوا” و”دعوا الحمام ينام”، إلى الانعطافات الجغرافية التي صقلت روحه، كما في قصائد السفر “في السماء إلى سانتياغو”، و”ريو دي جانيرو”، و”بوينس آيرس”. كل هذه العناوين تعمل كخرائط صغيرة لروح الشاعر التي لا تثبت إلا في حركتها. وفي كل هذه الموضوعات، تظهر بصمته الخاصة: تلك القدرة على تحويل المشهد اليومي البسيط إلى صورة شعرية تُشبه لوحة تمتدّ خارج الإطار. ومن أجمل ما يعكس هذا الأسلوب:«أبكي… لا لأن الحزن أثقلني بل لأن الضوء لا يكفّ عن ملامستي.»، وهنا تتجلّى فكرة الشاعر الأساسية: أن التجربة الإنسانية مفتوحة للنور والمعرفة، وأن المشاعر المختلفة تتشارك في رسم الصورة الكبرى للحياة.
التفرد الأسلوبي ورقة المفردة: لغة الصائغ وشعرية التكثيف
إن قوة بديع صقور ليست في الموضوعات وحدها، بل في الطريقة التي يكتب بها هذه الموضوعات. لغته رقيقة دون أن تكون واهية، عميقة دون أن تتكلف، شفافة دون أن تفقد كثافتها الشعورية. يستخدم الجملة القصيرة القادرة على حمل أكثر مما تحتمل، ويترك للصمت بين الكلمات دورًا لا يقل أهمية عن الكلمات نفسها. إنه شاعر يعرف أن البلاغة ليست في الارتفاع، بل في الانخفاض الجميل نحو الجوهر. ويكمن تميزه في اعتماده على شعرية التكثيف والتجريد الهادئ، حيث يُدير قصيدة التفعيلة ليجعل السطر الواحد يحمل دلالات الجملة الكاملة. وتتضح هذه القدرة على تكثيف المشهد واللحظة الشعورية في نصوصه:«يوم من ريح/ خلف صفصافة الغروب / نكاشفهم بحبنا/ نعانق النهر المبتعد / خلف تلال الطفولة والريح»، ويبرز التجريد في استخدامه لثنائية الضوء والماء (القمر/الريح) كمهيمنين بصريين؛ حيث يمثل الضوء الحنين والمعرفة، ويمثل الماء والريح الحركة والهشاشة. وتؤكد طريقته في اختيار المفردات على قيمة اللحظة الشعورية:«أشياء بسيطة مثل رائحة القهوة تعيدني إليّ كل صباح.»
“قمر على مركب الريح”: التتويج لسيرة الشاعر وحكمته
إن هذه المختارات، التي تضم خلاصة تجربة ثلاثين عامًا و13 ديوانًا، لا تمثل مجرد تجميع، بل هي لحظة تتويج لفلسفة الشاعر الحياتية والفنية. لقد سمحت سنوات الغربة في سانتياغو وتأثره بالشعر اللاتيني (نيرودا تحديدًا) بدمج الروح السورية بنزعة تأملية عالمية. وبهذا، لم تكن رحلته مجرد انتقال جغرافي، بل كانت تحوّلًا وجوديًا كاملاً؛ حيث استخدم التكثيف والهمس ليتجنب الوقوع في فخ الخطاب المباشر أو الوجدانية المفرطة. هذا الكتاب هو نتاج شاعر تمكن من ترويض الريح ، التي تمثل التّرحال والاضطراب ، ليثبت فوقها القمر ، الذي يمثل الحكمة والذاكرة المضيئة، مؤكداً أنّ السيرة الذاتية الحقيقية للشاعر هي نصوصه التي تستمد بساطتها من العمق، وعمقها من الصدق.
شاعر يُنصت إلى الضوء
“قمرً على مركب الريح” ليس كتابًا عابرًا في التجربة الشعرية السورية، بل هو حجر أساس في مسيرة شاعر اختار أن يكون صادقًا قبل أن يكون لامعًا، وإنسانيًا قبل أن يكون تقنيًا. في هذا الكتاب نرى صوتًا يستعيد ذاته عبر الذاكرة، ويستعيد العالم عبر الرحلة، ويعيد صياغة الحياة عبر الشعر. «القصائد هنا خرائط روح… تتعدد فيها الجهات وتبقى الوجهة إنسانية.» إنّه شاعر يعرف أنّ الكلمة يمكن أن تكون وطنًا، وأنّ القصيدة يمكن أن تكون سفينة، وأنّ القمر مهما ابتعد ، يبقى دليل المسافر في الظلام. وبهذا، يقدّم بديع صقور عملاً يشهد على أن الشعر، حين يُكتب بقلب نقي وروح صبورة، يستطيع أن يمشي على الريح… وأن يضيء.




