اعرف عدوك : هل تصلح استراتيجية مناعة القطيع للتعامل مع جائحة  كورونا؟

أ.د. جمال علي خليل الدهشان

قبل ظهور جائحة كورونا- كوفيد 19-  كان العالم يعيش حالة من الرخاء والاستقرار، بحيث استطاع الإنسان أن يطوع الطبيعة لخدمته ورفاهيته، بل واعتقد الإنسان أنه استطاع أن يسيطر على الطبيعة، وظن الإنسان أنه أذكى مخلوق على وجه الأرض، ظل التطبيقات المختلفة للثورة الصناعية والذكاء الاصطناعى والاتمتة وتعلم الالات .

وفجاة استيقظ العالم على هذا الكابوس كورونا عندما اعلنت الصين تفشى هذا الفيروس القاتل سريع الانتشار بتاريخ 31 ديسمبر من عام 2019م بدا ظهوره في مدينة ووهان، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى انتشر هذا الفيروس في شتى بقاع الأرض، وأجبرنا على تغيير نمط حياتنا إلى حياة جديدة لم نعهدها من قبل، وفرض حجراً صحياً، وتسبب في كساد اقتصاد دول العالم، وفقدان الوظائف في بعض الدول، وصرح دونالت ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في مقابلة صحفية “أن الفيروسات أصبحت أذكى بكثير من أسلافها”، كما أعلنت منظمة الصحة العالمية بأن اكتشاف لقاح أو علاج لفيروس كورونا- كوفيد 19- قد يحتاج وقتاً طويلاً.

فقد اندلع فيروس كورونا من بؤرة “ووهان” في وسط الصين، ليجتاح بعد عدة أسابيع العالم ، بل وتحول لوباء يماثل الطاعون والجذام في العصور الوسطى ، حيث أدى الى إصابة أكثر من خمسة ملايين من البشر ووفاة ما يقارب 350 ألف منهم ، وانتشاره فيما يقرب من 205 .

لقد اصبح العالم كله في حالة طوارئ نتيجة فايروس كوفيد ١٩ المعروف باسم كورونا، الذي تسبب في زلزال عالمي وحالة من الهلع والخوف لانتشاره بشكل سريع ومرعب وصل إلى أغلب مناطق العالم، خاصة في ظل انعدام اللقاح المناسب لمعالجة المصابين الذين للأسف أنهى الفيروس حياة بعضهم ،  ودعوة العديد من الدول والمنظمات الى وضع استراتيجاتها المناسبة للتعايش مع وجود هذا الوباء .

وانعكس الأمر في تعليق الرحلات الجوية، وتأثر قطاع كبير مثل السياحة بغالبية الدول ، وإغلاق المدارس والمصانع ومعظم  أنشطة الحياة فى العالم ، وامتد ليغلق مدنًا كبرى على أفرادها خشية تفشي الفيروس إلى حد مرحلة انعدام السيطرة ، كما فتح الباب لتوقع سيناريوهات نهاية العالم بعدما تتوقف الحياة نتيجة لانتشار ذلك الوباء ، ولا سيما في غضون المرحلة الراهنة التي لم يتوصل خلالها  إلى مصل يقضي على ذلك الفيروس.

وقد انعكست اثار هذا الفيروس باثاره المدمرة على كل جوانب الحياة فى العالم ، ولم ينجو التعليم منها بل انه كان من أكثر القطاعات تاثرا بتلك الكارثة ، والذى صفته المديرة العامة لليونسكو أودرى أزولاى بقولها ” لم يسبق لنا ابدا أن شهدنا هذا الحد من الاضطراب فى مجال التعليم ” ، فقد أغلقت المدارس في أكثر من 177 دولة في جميع أنحاء العالم، مما أثر على نحو 1.3 مليار طالب، أي ما يعادل نحو 72.4 % من إجمالي الطلاب المسجلين في المدارس والجامعات في العالم، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة  )اليونسكو ( فأحدث تغييرًا في طرق التعليم التقليدية، ودفع نحو تحول جذري تجاه منصات التعلم عن بعد ، كما أصبح توفير أدوات التعليم الإلكترونية أولوية رئيسية للدول جميعها لضمان استمرار عملية التعليم.

ومع دخول العالم الشهر الخامس لتفشي فيروس كورونا ، وفى ظل ما اكده العلماء من  أنّه لا يوجد أمل بالقضاء أو الانتهاء من أزمة فيروس كورونا بشكل نهائي وإلى الأبد ، ان خطة التعايش مع هذا الوباء أصبحت أمر ضروري لإنقاذ الاقتصاد الوطني والعالمى  ، بدأ العالم يتجه للمرحلة الثانية في التعامل مع الوباء، وهي مرحلة “التعايش”، التي تتنبأ بعودة للحياة اليومية ، مع فيروس بلا لقاح ، فقد صرح جين تشي، مدير معهد الأكاديمية الصينية للعلوم الطبية، بإنه “من المحتمل جدا أن يكون كورونا وباءً يتعايش معه البشر لفترة طويلة، ويصبح موسميا ومستمرا بالتواجد داخل الأجسام البشرية”، على البشرية التعايش مع كورونا لاستحالة القضاء عليه نهائيا ، ليرسخ فكرة التعايش مع الوباء، من خلال قيام بعض الدول بتخفيف الإغلاقات، ورفع القيود على التجارة ، وعلى الحركة ، من دون الاستناد لانخفاض حقيقي في أرقام الإصابات، السماح للفيروس بالانتشار بطريقة مراقبة ، بين الفئات الأصغر سنا من السكان، سيكون بمثابة طريقة أفضل للتعامل معه، لتكوين ما يعرف بـ”مناعة القطيع” Herd immunity  ، بدلا من الاستمرار في أوامر الإغلاق.

ظهر هذا المصطلح العلمى عام 1923كاحد الاستراتيجيات لعلاج فيروس الحصبة ، في منتصف مارس من عام 2020، ظهر مصطلح “مناعة القطيع” Herd immunity أو “المناعة بالعدوى” Immune infection ، وذلك بالتزامن مع دعوة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى اتباع هذه الاستراتيجية في مواجهة فيروس كورونا المستجد.

تقوم سياسة مناعة القطيع على تحصين الناس وإكسابهم مناعة ضد مرض معين وهذا من خلال طريقتين: –

–   تطعيم جزء كبير من السكان ضد مرض ما وهو ما يعرف باللقاح، حيث يكون اللقاح مكوناً من فيروسات ميتة أو ضعيفة لكنها كافية لتكوين ذاكرة لدى جهاز المناعة عند الإنسان ضد المرض من دون إصابة الجسم بالمرض وبالتالي إكساب الجسم مناعة ضد المرض.

–    في حالة عدم توفر اللقاح يتم ترك المرض ينتشر بين الناس دون محاولة حصره أو منع انتشاره حتى يصيب المرض نسبة معينة من السكان “ثلثي السكان” ومن ثم يقوم جهاز المناعة عند من أصيبوا بتكوين أجسام مضادة ضد المرض وإنشاء ذاكرة مناعية بعد الشفاءوعندها يتوقف المرض عن الانتشار حتى لو لم يكن جميع السكان قد طوروا ذاكرة مناعية له، وهذه هي الطريقة التي استخدمتها بريطانيا في مواجهة فايروس كورونا ، وعدلت عنها ، لاسباب علمية واخلاقية .

وتستند استراتيجية “مناعة القطيع” ببساطة إلى ممارسة الحياة بشكل طبيعي، بحيث يصاب معظم أفراد المجتمع بالفيروس، وبالتالي تتعرف أجهزتهم المناعية على الفيروس، ومن ثم تحاربه إذا ما حاول مهاجمتها مجددا. ويقوم على حصول غالبية السكان (60 في المئة إلى 80 في المئة) على مناعة أو مقاومة للفيروس من خلال الإصابة بالعدوى ثم التعافي منها.

ان مناعة القطيع يمكن أن تحدث بشكل طبيعي إذا تعرض عدد من الناس للعدوى، إذ يكوّنون أجساما مناعية مضادة تكسر شوكة الفيروس، ولن يكون بمقدوره الانتشار على نطاق واسع.

ويمكن لمناعة القطيع أن تكتسب أيضا من خلال إعطاء لقاح لعدد كبير من الناس لمكافحة الوباء، مما يصعّب من انتقاله لآخرين.

يقول المدافعون عن “مناعة القطيع”، إنها تشكل الخيار الأقل سوءًا، لأن حالة الإغلاق التي تفرضها بعض الحكومات، لاسيما في الدول النامية، تؤدي إلى تبعات اقتصادية كارثية، لأن نسبة كبيرة من الناس يعملون بشكل يومي ويكسبون قوتهم من الخروج إلى الأسواق والأماكن العامة، ولا يستطيعون المكوث في البيوت، رغم وجود مبادرات دعم حكومية وخيرية لمساعدتهم.

لكن ذلك الحل أيضا غير متوفر في مواجهة فيروس كورونا، للاسباب التالية :

– أن لقاح فيروس كورونا  لن يكون متاحا قبل سنة إلى سنة ونصف السنة من الآن.  

– “لا يوجد دليل علمي حتى الآن على أنه إذا ما أصيب شخص بفيروس كورونا، فإنه لن يصاب مرة أخرى”.

– أن “كوفيد 19 ” مرض شديد العدوى والانتشار معد للغاية.

– لاتوجد اماكن كافية فى المستشفيات لاستقبال كل الحلات التى ستصاب بالفيروس .

– إن مناعة القطيع ليست آمنة العواقب أيضا، فإذا كانت قد آتت ثمارها في دولة متقدمة مثل السويد، فإنه من شأنها أن تسفر عن وضع كارثي في دول أخرى ذات أنظمة ضعيفة للرعاية الصحية، وربما تجد المستشفيات نفسها عاجزة أمام عدد هائل من المرضى، في حال أزيلت القيود المفروضة على التنقل. فلا توجد ثمة معلومات كثيرة حول المناعة التي تحصل لدى المتعافين، في إشارة إلى أن الأشخاص الذين تماثلوا للشفاء ليسوا في مأمن تام من المرض.

– يؤخذ أيضا على هذه الاستراتيجية أنها “تضحي” بكبار السن مقابل حفظ مصالح الاقتصاد، وهو “أمر غير سليم” من الناحية الإنسانية، وهو ما دعا منظمة الصحة العالمية الى التاكيد على ان مناعة القطيع وحشية.. والبشر ليسوا قطعانا ، وان العالم ، وان مصطلح مناعة القطيع ماخوذ من علم الاوبئة البيطرية حيث يهتم الناس بالصحة العامة للقطيع ولايهتموا بالحالات الفردية ،  وهذا اجراء غير انسانى .

وفى النهاية يجمع الكثيرين ان هذه الاستراتيحية  لا تمت للإنسانية بصلة وتشبه قانون الغاب -يموت الضعيف ليعيش القوي- وأن مجرد طرحها يكشف عن بشاعة وتوحش النظام الرأسمالي، بينما الأصل أن تكون النظرة إلى البشرية نظرة رعاية شؤون وهي منع تفشي المرض أو الوباء والعمل على محاصرته قدر الإمكان مع العمل على تطوير علاج ولقاح يساعد البشرية على تخطيه وإن فشل ذلك وانتشر المرض وخرج عن السيطرة فإن النوع الثاني من مناعة القطيع يحصل بشكل تلقائي بفضل جهاز المناعة الذي خلقه الله في جسم الإنسان، أما تَعَمُّد ترك المرض والوباء ينتشر فهذا هو الإجرام بعينه ولذلك كانت تلك السياسة المتوحشة سياسة ناجحة في التخلص من فئة معينة من البشر وليس في مواجهة المرض، وسياسة لا تمت للإنسانية بصلة وحتى من تحدث بها من الأطباء هو قد تأثر بالقيم والمفاهيم الرأسمالية وأصبح ينظر من منظورها.

أن الدافع في كل الأحوال ليس الطب وحماية الناس ورعايتهم وإنما النظرة النفعية عند الدول، وهذا طبيعي لأن المبدأ الرأسمالي بطبيعته وجد لخدمة أصحاب رؤوس المال ودولهم ومصالحهم وتسخير عامة الناس لخدمتهم وليس لرعاية شؤونهم والحفاظ على حياتهم، فإن كانت مصلحة الرأسماليين تتطلب الحفاظ على حياة الناس فعلوا وإن لم يكن كذلك تركوهم للموت كما كانوا يفعلون مع العبيد حيث كانوا يحافظون على العبد طالما أنه قوي فإن هرم أو ضعف أو مرض يقتلونه أو يتركونه يموت جوعاً.

المراجع:

– إبراهيم التميمي : مناعة القطيع لمواجهة كورونا…جريمة أخلاقية انبثقت من صلب الرأسمالية متاح على  http://www.pal-tahrir.info/article/11875-%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D9%8A%D8%B9-

–  هشام تسمارت :   مناعة القطيع.. سياسة صحية “مثيرة للجدل” وسط تحذير من العواقب متاح على https://www.skynewsarabia.com/technology/1339096-%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D9%8A%D8%B9-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-

– سكاى نيوز : أسباب فشل استراتيجية “مناعة القطيع” .. الهند نموذجا متاح على https://www.skynewsarabia.com/world/1341254-%D8%A7%D9%94%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D9%81%D8%B4%D9%84-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%

– سكاى نيوز : مناعة القطيع.. ماذا تعني؟ وهل تنجح في مواجهة كورونا؟ متاح على https://www.skynewsarabia.com/technology/1333368-%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D9%8A%D8%B9-%D8%AA%D8%B9%D9%86%D9%8A%D8%9F-%D9%88%D9%87%D9%84-%D8%AA%D9%86%D8%AC%D8%AD-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7%D8%9F

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى