إقامة الدين في الظروف الراهنة في الهند

تأليف: سيد سعادة الله الحسيني

عرض: فيلابوراتو عبد الكبير

مُؤلف الكتاب سيد سعادة الله الحسيني من نُخب الجيل الحديث في الجماعة الإسلامية لعموم الهند. انتُخِب أميرا للجماعة هذا العام. خلافا لمولانا جلال الدين العمري الذي سبقه في منصب الأمير ليس الحسيني من علماء الدين الذين تخرجوا في الجامعات الإسلامية التقليدية بل ممن تسلح بالعلوم العصرية مثل محمد يوسف من قادة الجماعة السابقين. سبق له العمل بصفته أستاذا في معهد التكنولوجيا الهندي. قدم الاستقالة من وظيفته بالمعهد للتفرغ في أنشطة جماعته الدعوية والاجتماعية. وكتابه الذي نعرضه هنا يبحث عن منهج العمل الذي يجب على الحركة الإسلامية أن تتبعه في الهند في ضوء التطورات السياسية والاجتماعية الراهنة على المستوى العالمي والمستوى الهندي.

ويُقسَم الكتاب إلى ثلاثة أقسام.. القسم الأول تحت عنوان “التطورات العالمية” يبحث عن ثلاثة مواضيع؛ وهي: “المستجدات العالمية والحركة الإسلامية” و”التيار العالمي ضد النظام الرأسمالي” و”مقارنة الحالة الإسلامية في مصر بالحالة في تركيا”. والقسم الثاني تحت العنوان العريض “معالم في الطريق” يبحث عن مواضيع تتعلق بالحركة الإسلامية في الهند؛ مثل: “الحركة الإسلامية في الهند وآثارها الاجتماعية”، و”مستقبل الحركة الإسلامية في الهند”، و”تحديات منهج التعليم أمام مسلمي الهند”، و”الطريق إلى التطوير والتنمية”، و”الشباب المسلم وميدان عملهم: ضرورة التوازن والوسطية”. والقسم الثالث يتناول التحديات والمشكلات التي يواجهها الدعاة في مجال الدعوة وإيجاد حلها، ويبحث فيه التعصب الديني وتهمة الإرهاب المنسوبة إلى المسلمين وموقف الحركة الإسلامية من حكم محكمة إله آباد المحلية في قضية المسجد البابري ونتائج انتخابات العامة في العام 2014، ونتائج الانتخابات في ولاية أوتارابرديش.

الكاتب متفائل جدا بمستقبل مسلمي الهند رغم التحديات الهائلة التي يواجهونها في الوقت الحاضر. يقول إنَّ تاريخهم مشع يؤكد بثقة أنفسهم وعزيمتهم؛ حيث اتخذوا قرارهم في البقاء في الهند عند تقسيم البلاد دون أن يعقدوا آمالهم على باكستان. وذاك كان قرارا جريئا في تلك الحقبة الهائجة بالاضطرابات الطائفية والمجزرة الجماعية. وخلال العقود السبعة الماضية بعد الاستقلال تمكنوا من استقرار وجودهم في مسقط رؤوسهم متمسكين بتعاليمهم الدينية ومدافعين عن هويتهم الثقافية، كما استنهضت من بينهم منظمات وجماعات وحركات عديدة تأخذ بأيديهم نحو الترقي والازدهار في شتى المجالات الاقتصادية والتربوية والاجتماعية والدعوية. وليس هذا بأمر بسيط. وكان من تلك الحركات الجماعة الإسلامية الهندية التي تشكلت بُعَيد تقسيم الهند. ورغم مواجهة تحديات خلال فترتها الطويلة التي تمتد إلى سبعين عاما، تحققت إنجازات عظيمة حسب قول المؤلف، كما أثّرت في حياة المسلمين الهنود آثارا بالغة. استطاعت مع قلة أعضائها أن تلعب دورا في توحيد كلمة المسلمين. ومن أهم إنجازاتها مجلس الشورى لعموم مسلمي الهند الذي أتى في حيز الوجود في ستينيات القرن الماضي عندما اندلعت الاضطرابات الطائفية في نطاق واسع في أنحاء البلاد. إن محمد مسلم القيادي البارز في الجماعة الإسلامية والصحافي المرموق هو الذي كان خلف كواليس تشكيل هذا المنبر المشترك. فاز محمد مسلم في الحصول على تعاون سيد محمد من قادة حزب المؤتمر وصديق جوهر لال نهرو الحميم والدكتورعبد الجليل فريدي أحد قادة الحزب الاشتراكي و”بانتيت سوندار لال” من تلامذ الغاندهي المشهور. اللجنة بقيادة القاضي “ساتشار” التي عينتها الحكومة للبحث عن تخلف المسلمين في المجالات الاقتصادية والتربوية والاجتماعية حين قدمت تقريرها تبنت الجماعة الإسلامية مشروعا باسم “رؤية 2016” وبعد اكتماله ألحقته “رؤية 2026” حيث قامت بتأسيس عدد من المدارس والجامعات والمستشفيات في عدة مناطق في شمال الهند. وهذه المؤسسات معالم ناطقة بخدمات الجماعة الجليلة التي قدمتها لمجتمع المسلمين. إلّا أن المؤلف مع كل هذه النواحي الوضاءة لا يتردد في الاعتراف بالنقاط الضعيفة والملامح الكالحة في مسيرة الأمة والحركة الإسلامية في الهند. ويقول إن مسلمي الهند قد أضاعوا فرصا كثيرة متوافرة لهم دون أن يستفيدوا منها على الوجه المطلوب. ومن الضروري تقييم تلك الضعوف بنقد ذاتي لتحديد بوصلة مسيرة الأمة إلى الأمام. وخلال استعراضه مشاكل الأمة يُقدٍّم بعض التوجيهات لتحقيق الأهداف المنشودة.

لا شك أنَّ المسلمين في الهند يمرون الآن بمرحلة خطيرة في حياتهم، وعلى المستوى الدولي أيضا حالة الإسلام والمسلمين لا تختلف عن حالتهم في الهند كثيرا. وظروف العالم هذه أيضا تؤثر طبعا على نفسية المسلمين الهنود الاجتماعية. ولكن المسلمين في قارة الهند التي لم تفقد القيم الديمقراطية والأمن كاملة يراهم الكاتب نسبيا في مأمن من المشاكل والأزمات التي يواجهها غيرهم من المسلمين في كثير من بلدان أخرى. صحيح أنهم في السباق إلى التقدم متخلفون، ويُحيط بهم الآن جوّ سياسي تُهدَّد فيه هويتهم الثقافية التي يستميتون في الحفاظ عليها. التعصب الديني والاستقطاب الطائفي يتزايدان يوما بعد يوما. ويؤكد الكاتب بأن في هذه الظروف إنما يطلب منهم جهود بناءة تَحمِل مشاريع تُنفّذ بالبصيرة. ويقول إن كانت هناك تحديات كثيرة فثمة أيضا فرص سانحة. بل التحديات هي التي تفتح أبواب الفرص. ولكن علينا أن نفتح عيوننا نحو التحديات والمشاكل وكذلك نحو الفرص. والمقالات في هذه المجموعة تشير إلى بعض تلك الفرص والقرارات التي يجب أن تُتخذ في مثل هذه الظروف وتُسلِّط الضوءَ على الجهة الصحيحة التي يجب أن تستهدفها الأمة في مسيرة حياتها.

أية أقوام يتمتعون بثقة النفس والحذر من التهديدات المحدقة بها، ينبغي أن تسيطر على الظروف التي تحيط بها وتتحمل مسؤوليتها الكاملة دون أن تقضي جل أوقاتها في الشكاوى والعويل. سيفهمون أن إزالة العوائق الخارجية مسؤوليتهم كما الاهتمام بإصلاح ضعوفهم الذاتية بالاستفادة من مواردهم الداخلية أكثر مما هو من الخارج. هذه هي الرسالة الأساسية التي تُوصّلها إلى القراء معظم المقالات في الكتاب. وحاليا تتوافر فرص كثيرة للإسلام والمسلمين داخل الوطن وخارجه. وهي مرتبطة بقوة رؤية الإسلام. وهي ذاتها مصدر قوة أتباع الإسلام. ويقول المؤلف إن السبب الرئيس في ضعف المسلمين هو أنهم لم يهتموا بتطبيق قوة رؤية الإسلام هذه التي هي قوتهم الحقيقية على وجهها المطلوب. لأنهم بدلا من النهوض كأصحاب رؤية جعلوا أنفسهم فِرقَة من الفِرَق المتعصبة والطائفية.

القسم الأول من الكتاب يلقي الضوء على فرص متوفرة التي ترتبط بالظروف العالمية ويناقش عن الخطط الممكنة الاستفادة منها بهذا الصدد. العالم الإسلامي الآن ملعب القوى الدولية. الأزمة التي يواجهها المسلمون قلما يوجد لها نظير في تاريخهم. وسائل الإعلام التقليدية ووسائل مواقع التواصل الاجتماعية الحديثة ومؤسسات البحوث جميعها تحاول إقصاءهم تشويه صورتهم على الصعيد العالمي. ليس نظام الإسلام فقط بل قيمه وتعاليمه الأساسية أيضا فريسة لهجمات شعواء. يقول الحسيني إن علينا تحليل هذه الصورة بمنظورين. أوّلا ما هي الأسباب وراءها؟ ثانيا ما هي الطرق السليمة للخروج من هذا المأزق. إن أوروبا في عتبة شيخوختها الآن. كل واحد من خمسة أشخاص فيها قد تجاوز عمره 65 سنة. وهي في حاجة إلى دم جديد لإنقاذ نظام اقتصادها من الانهيار. ولكنها حين تبحث عن أياد عاملة من الشباب من العالم الإسلامي ينتابها خوف مما إذا كانت قوة الشباب هذه تأخذها معهم إلى دينهم الإسلام أيضا. ليس بوسعهم المنع من سيل هجرة المسلمين إليها ولا عدم تشجيعها. فإذن ترى الحل لهذه المشكلة في السماح لهذه الهجرة في جانب بينما تحاول في جانب آخر إبعاد القوة الوافدة هذه من ثقافتهم الدينية. يكتب المؤلف: “ومن السياسة المبنية على “الإسلاموفوبيا” ما يلي:

1- الدعاية القوية خارج العالم الإسلامي لتشويه الإسلام حتى يصبح مكروها لدى الجميع.

2- أن يجعل المسلمون أدوات لتأجيج هذه الكراهية وأن يجعل مناطق المسلمين جهنما يُخوِّف الناس منها.

3- محاولة إبعاد الجمهور عن الحركة الإسلامية وإيقاع من يحتمل أن ينتمي إليها في فخ خطير ينصب لهم.

4- تفريق المسلمين خاصة من يحلم بانتصار الإسلام بأن يجعلهم في معسكرات متفرقة.

5- توهين علاقة المسلمين بالإسلام وخاصة علاقتهم برسول الإسلام.

6- تمكين الجيش والدولة العميقة في الدول الإسلامية وتشكيل منظمات لتطبيق مخططاتهم بالنجاح.

ويشير المؤلف إلى أنَّ الحركات الإسلامية هي التي كانت مستهدفة لحملات الداعش في سوريا والعراق، وأن إسرائيل لم تكن أبدا عرضة لحملاتهم. الدول في الغرب ترى في الإسلام تهديدا لثقافتها. هذا هو السبب وراء كراهيتها نحو الإسلام. ولكن هذه الكراهية نفسها قد أثارت الفضول في الإسلام والاهتمام به في الغرب حيث يزداد عدد من يعتنقه يوما بعد يوم بما فيهم كثير من النخب والفنانين والأكادميين. أفول الثقافة الرأسمالية وانهيار نظام الأسرة واتجاه العودة إلى الروحانية والقيمِ الدينية التي تسمى “لا علمانية” (Desecuralism) يراها المؤلف كلها عناصر تُوفر للإسلام فرصا في الغرب.

وفي جهة أخرى، توجد براهين التقدم في بعض الدول الإسلامية مع التمسك بتعاليم الدين، إيران وتركيا نموذجان بهذا الصدد. ينقل المؤلف مقالًا كتبه آندي كوجلان في مجلة New scientist حيث يقول إن إيران في قمة العالم في النمو إذا اعتبرنا سرعة مسيرتها نحو التقدم العلمي. وتركيا أيضا في الصف الأول في أوروبا في مجال البحوث العلمية، ويقول تقرير صدر عام 2015 من مجلس إدارة البحوث والابتكارات التابعة للمفوضية الأوروبية إن نسبة النساء اللاتي ينشغلن في البحوث في تركيا يفوق عددهُنّ على أخواتهن في إنجلترا وفرنسا التي تُعدّ مراكز الحركة النسوية. ويقول جولدمان في كتابه Bricks and Beyond إن سبع دول من 11 دولة التي تُفرَض أن تحتل مكاناا بارز في نظام الاقتصاد العالمي في المستقبل هي دول إسلامية. العالم الإسلامي الحالي عالم الشبان 60%، من نسمة العالم الإسلامي عمرهم أقل من 30 سنة. وتناسب عدد الشبان المسلمين يكون تقريبا 70% من مجمل الشبان في العالم. يقول المؤلف إن من التحديات التي يجب أن تأخذها الحركات الإسلامية طول العالم أن تكون سندا لقوة هؤلاء الشباب، وأن تقودهم إلى الطريق المستقيم المتوازن من الوقوع في أيدي أعداء الإسلام. ويؤكد أنَّ إستراتيجيات الحركات الإسلامية تتطلب تغيرا كبيرا طبقا للمستجدات في العالم الحاضر. وعلى ضوء النماذج التركية والتونسية يُوضّح الكاتب مواصفات هذا النموذج التي يجب أن تتصف بها الحركات الإسلامية في أرجاء العالم على النحو التالي:

(أ) بدلا من التشبث بهتافات شمولية الإسلام التوجه إلى التماشي مع العملية التدريجية بالتركيز في التغيرات الممكنة في الظروف الحاضرة.

(ب) بدلا من المواجهة المحاولة للاتفاق الممكن بالتوصل إلى عقد سياسي حتى مع القوى المعادية للإسلام، وعدم التضحية بالمصالح الجزئية الممكنة بنصب العين على آمال بعيدة.

(ج) التفادي من العصبية الحزبية ومحاولة استيعاب جميع شرائح المجتمع.

(د) كسب القوة الاجتماعية من خلال الخدمات العامة وحلّ مشاكل السواد الأعظم حتى تتحوّل تلك القوة إلى قوة سياسية.

وحين يحلل الحسيني حالة الإسلام ومستقبل الحركة الإسلامية في الهند لا يفقده الشعور بالحقائق المرة القائمة فيها الآن ولا رؤية التحولات الهائلة المقبلة. يقول إن الهند خلال عام 2022 ستصبح بلدا أكثر سكانا في العالم بحيث يكون واحد من خمسة أشخاص فيه هنديا. حين تصل نموها الوطني للإنتاج إلى خمس وعشرين تريليون ستتحول ثالث قوة اقتصادية في العالم. وفي عام 2030 ستكون الهند أكثر قوة عاملة كما ستكون أكثر الشبان في العالم. وبما أن أوروبا وروسيا في تلك الحقبة ستكونان أكثر الدول شيخوخة، سيتم الإنتاج الاقتصادي في البلدان النامية بأيادي القوة العاملة والمهرة الوافدة من الهند. ويعرض الكاتب لإحصائيات عن ازدياد عدد المدن والهجرة إلى المدن في الهند وإلى تقدمها في مجالات استخدام وسائل التواصل وغيرها. وعدد المسلمين خلال هذه الفترة سيصل إلى 240 مليون بحيث يكون 16% من مجمل السكان، وثُلث السكان منهم سيكون في المدن الكبيرة، وفي هذه الحقبة تستفحل حركة إحياء الهندوسية حتى تُحاول أن تحكم قبضتَها على جميع المجالات وتسيطر على عقول الطبقة المتوسطة من الهندوس، ولكن المناقشات الجارية على نطاق واسع حول نظام التربية الهندوسية والعلم الهندوسي وفلسفة الحياة الهندوسية والقيم الهندوسية ونموذج التجارة الهندوسية بما يفتح الفرص للحوار عن الرؤى الإسلامية في هذه المواضيع. بينما يشتد تعامل أصحاب إحياء الهندوسية في جانب يزداد دور المسلمين في جانب آخر في مجال النشاطات التربوية والاقتصادية. يجب على الحركة الإسلامية أن تتخذ استراتيجيات بحكمة وموعظة حسنة لتواجه التحديات الناتجة من هذه الظروف.. حسب خطط رسمها الكاتب يمكن تلخيصها كما يلي:

– بدلا من أن يكون المسلمون طرفا في التوتر الطائفي القائم يجب عليهم أن ينشغلوا بالدعوة بطريقة سلمية ومعاملة لينة بشهادة حياتهم العملية. ويمكنهم في هذا الشأن الاستفادة من حب استطلاع الناس للإسلام ولو كان ناتجا من أسباب سلبية.

– اجتناب الانفراد في مجال السياسة والابتعاد عن السياسة الطائفية.

– إنهاء عدم اهتمام أحزاب المسلمين وححركاتهم بالقضايا العامة وعدم حصر أفكارها ونشاطاتها في قضايا المسلمين فقط.

– إنهاء فجوة التواصل بين المسلمين وغير المسلمين وخاصة فيما يتعلق بقضية التطرف.

– إعادة النظر في أدبيات الحركة الإسلامية التي كُتِبت قبل استقلال الهند. واستخدام التكنوجوجيا المعلوماتية في مجال الدعوة. إضافة إلى المبادئ الإسلامية يجب أن تتضمن هذه الأدبيات التصورات الإسلامية عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة ونظام التربية والتعليم والتنمية ورعاية البيئة…وغيرها.

والكتاب في المجمل دراسة جادة ومحاولة جريئة لمراجعات ذاتية، وقائمة المراجع تدل على أن الكاتب واسع الاطلاع على ما يتعلق بموضوع العلم الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى