الاحتياجات الاصطناعية وكيفية الخروج من النزعة الاستهلاكية

تأليف: رازميج كوشيان

عرض: سعيد بوكرامي

شهدنا منذ بداية الثورة الصناعية أن الرأسمالية تسعى دائمًا إلى توليد احتياجات مصطنعة جديدة. الشخص الذي يشتري آخر مخترع تكنولوجي، على سبيل المثال، أو يتنقل بالطائرة إلى المدينة المجاورة، أو يجهز بيته بمستلزمات جديدة… هذه الاحتياجات الاصطناعية المتزايدة لا تستعبد الإنسان المُعاصر فقط، لكنها تضر بالبيئة ضررا بليغا. إن انتشارها هو الأساس الذي تقوم عليه النزعة الاستهلاكية، والذي بدوره يؤدي إلى تفاقم مستمر للموارد الطبيعية مما يساعد على التلوث في أرجاء الأرض. في عصر منصات المتاجر مثل (أمازون)، وصلت النزعة الاستهلاكية إلى “المرحلة القصوى”. لهذا يثير هذا الكتاب الهام سؤالًا إشكاليا: كيف يمكن تقليص هذا الانتشار للاحتياجات الاصطناعية؟ كيف يمكن الخروج من النزعة الاستهلاكية الرأسمالية؟ يعتمد التفكير في هذا الموضوع المهم والجديد على فصول موضوعاتية، مكرسة للتلوث الضوئي، والتحليل النفسي للاستهلاك القهري أو ضمانة السلع، من أجل تطوير نظرية نقدية للاستهلاك. فهي تجعل الاحتياجات “الأصيلة” محددة بشكل جماعي، منفصلة عن الاحتياجات المصطنعة، وتدخل في صلب سياسة التحرر في القرن الحادي والعشرين.

على طول مظان الكتاب، يستحضر الكاتب نظرية الاحتياجات لدى كارل ماركس وأندريه غورز وأجنيس هيلر. بالنسبة لهؤلاء المفكرين، فإنَّ الاحتياجات “الأصيلة” لها إمكانات ثورية. كما قال ماركس، “الثورة الراديكالية لا يمكن إلا أن تكون ثورة للاحتياجات الراديكالية”. كيف يمكن، إذن، الخروج من النزعة الاستهلاكية؟ في وقت الطوارئ البيئية، يبدو السؤال أكثر أهمية من أي وقت مضى حيث إن الإنتاج الثابت وغير المقيد للبضائع يؤثر بشكل مباشر على الصحة وبالتالي على بيئة كوكبنا ومصيره. ومع ذلك، فهي قضية حساسة ومعقدة، لأن النزعة الاستهلاكية ونظيرتها في الإنتاجية هما في صميم النموذج الرأسمالي الذي بنيت حوله مجتمعاتنا منذ قرنين على الأقل. لذلك، فإن مواجهة هذه المشكلة الجوهرية، في مائتي صفحة فقط، يبدو مشروعا كبيرا وطموحا. غير أن، هذا التحدي ما يصبو إليه عالم الاجتماع رازميج كوشيان في هذا الكتاب، حيث يعتزم اقتراح طرق ملموسة للخروج من النزعة الاستهلاكية. معلوم أن رازميج اشتهر بعمله حول غرامشي وكذلك بتحديده خرائط التفكير النقدي الجديد، كما قام أستاذ علم الاجتماع بجامعة بوردو، في آخر أعماله، بمواجهة بين الإيكولوجيا السياسية والفكر الماركسي، وبذلك يعد واحدا من أهم المتخصصين والممثلين له في فرنسا. وفي هذا الصدد أيضًا، يدرس الآن، مشكلة الاستهلاك، أو بمعنى أدق يدرس احتياجاتنا ومسألة الإشباع في النظام الرأسمالي الحالي. للإجابة على سؤاله، يعكف كوشيان أولاً على موضوع الظلام الليلي. بحيث يذكرنا في مقدمته، أننا فقدنا الليل فعلاً، ومعه التجربة الذاتية والكونية لتأمل النجوم، وقد حدث هذا الانفصال عن الطبيعة الأم بسبب التطور الهائل للإضاءة الحضرية المستمرة. “الظلام الآن ثروة نادرة” (ص 18-19)، ويلاحظ أن الموضوع أصبح مطلبا سياسيا واجتماعيا؛ إذ صار من الضروري الآن أن ندفع الثمن، بطريقة أو بأخرى، لتلبية حاجة كانت مجانية سابقًا وهي أن تكون قادرًا على تأمل السماء المرصعة بالنجوم. ومن هنا، إذا أصبحت الإضاءة الاصطناعية حاجة مشروعة في أنماط حياتنا الحالية، فإنها أصل التلوث الكبير الذي يؤثر بشكل مباشر على التوازن البيولوجي للكائنات الحية ويميل إلى إزالة ما كان ذات يوم حاجة أنثروبولوجية أساسية، كتأمل السماء ليلاً. هذا المثال غير المتوقع يطرح ببراعة المشكلة التي سيدور حولها تفكير كوشيان: كيف يمكن التمييز بين الاحتياجات الضرورية وتلك التي لا لزوم لها، هل من أجل الخروج من انتشار وهيمنة الاحتياجات المصطنعة التي أنشأتها رأسمالية الاستهلاك؟

للإجابة على هذا السؤال، يحاول عالم الاجتماع أولاً تأسيس نظرية نقدية للاحتياجات الإنسانية. انطلاقًا من النظرية الماركسية للاحتياجات التي طورها أندريه غورز وأجنيس هيلر، بحيث قام بشرح مبادئها وتحديد أسسها في الفصل الأول. أما في الفصل الثاني، فيقترح على الإنسان أن يتكيف مع عصره حيث الرأسمالية المعولمة تهيمن والأزمة البيئية المُتنامية تهدد مستقبله. لتحقيق ذلك، يجب اعتماد مفهوم الحرمان، الذي وضعه ونظّر له المحلل النفسي دونالد وينكوت. وحسب المؤلف، فإنَّ الحرمان يُميز في أفضل الأحوال حالة احتياجاتنا داخل هذه الرأسمالية المعاصرة، والتي تربط بالحياة نفسها (الحيوية البيولوجية) والبيولوجية والاجتماعية والشخصية، كما هو الحال في جميع مجالات الحياة ولذلك على العالم نفسه (العالم الرأسمالي) أن يعيش تجربة الحرمان، والابتعاد عن عدم الرضا البسيط بالحاجة،لأنَّ الحرمان يؤدي إلى فقدان إشباع الحاجة، التي كانت متخمة سابقًا. هذا هو المثال المقترح في مقدمة الليلة المرصعة بالنجوم والتي لم يعد بإمكان الإنسان المعاصر تأملها، كما لم يعد قادرا على تلبية حاجته، فيشعر بعدم وجود حاجة يمكنه من خلالها الاستجابة بسهولة. وهكذا يميز الحرمان، حسب كوشيان، الاغتراب الذي يميّز الرأسمالية المعاصرة. لحسن الحظ، ينفذ النظام بشكل جيد ويقدم النزعة الاستهلاكية كهدية لخصوصياتنا المغتربة مادام يضمن صناعة احتياجاتنا المصطنعة طبعا، ولكن من يمكن بسهولة وبسرعة تلبية احتياجاته من البضائع. إن ظاهرة الاعتماد على الاستهلاك، والتي يتناولها الفصل الثالث من الكتاب، تشهد على هذا الواقع. لكن ما الذي يجب فعله للخروج من هذه الحلقة المفرغة من النزعة الاستهلاكية والاغتراب الرأسمالي؟

أحد الحلول التي اقترحها كوشيان- وهذا هو موضوع الفصل الرابع الطويل – هو تمديد الضمان القانوني على البضائع لفترة طويلة، وكذلك على الأشياء التي لم تتم تغطيتها بالضمان حاليًا، مثل البضائع شبه الدائمة مثل (الملابس، والأحذية، وبعض الأثاث، إلخ). في الواقع، فإن هذا الامتداد المزدوج، يدعو المستهلكين خاصة إلى إصلاح أغراضهم بدلاً من تغييرها وشراء غيرها، ويهدف هذا المخطط إلى محاربة التقادم المخطط له طرف الإنتاجية الرأسمالية الاستهلاكية التي تقلص الصلاحية على المدى الطويل، وبذلك فإن المنتج الصناعي سيضطر إلى صناعة سلع أكثر متانة، لكن لتحقيق تقدم لا بد من إحياء مراكز الإصلاح (أو ما يسمى الآن “ورشات تدوير الموارد”)، مما سيساعد على توفير مناصب عمل جديدة وإنتاجية جديدة. وبذلك يستنتج كوشيان أن “من الضروري، توسيع معارضة راديكالية للرأسمالية لتشمل الأشياء أيضا” (ص 137)، وبالتالي إنتاج ما يسمى بالسلع “المحررة”، ويقصد عالم الاجتماع في الفصل الخامس، البضائع التي تتميز بالمتانة، ولها قابلية للتفكيك، والتبادل والتطور. وبهذه الطريقة فقط يمكن إحداث انقلاب، لصالح الأولى، مع توازن القوى بين قيمة الاستخدام وقيمة التبادل. مما سيساعد على جعل الرفاهية في متناول الجميع، ليس عن طريق إضفاء الطابع الديمقراطي على المنتجات الأكثر غلاء، ولكن عن طريق الوصول الطبيعي إلى السلع الفريدة والجميلة في آن واحد، وخاصة ما لا يمكن اختزاله في وظيفة ذات منفعة. في الفصلين الأخيرين من الكتاب يقدم الكاتب إستراتيجية إنشاء هذه البنية التحتية للمساواة التي تدعم ظهور حضارة مادية متحررة من إنتاجية الرأسمالية والاستهلاكية. في البداية، يؤكد كوشيان أن من الضروري وضع سياسة للاحتياجات (الفصل 6)، أي بناء العمل السياسي والممارسة على النظرية النقدية للاحتياجات المحددة في الفصول الأولى من الكتاب. للقيام بذلك، يقترح عالم الاجتماع النظر في إنشاء تحالفات جديدة بين الحركة البيئية والحركة العمالية، عن طريق تطعيم النقابات التقليدية بنشطاء بيئيين، ولكن أيضًا عن طريق تحسيس وتوعية الحركات البيئية بالقضايا الطبقية الملازمة لنضالها. كما يؤكد على الحاجة (مرة أخرى) إلى دمج المنتجين والمستهلكين في حركة مشتركة. ولهذا، فإن تعبئة العاملين في مجال اللوجستيك أمر ضروري، لأنهم هم اليوم من يشكلون الواجهة الرئيسية بين المنتجين والمستهلكين والطبقة العاملة الجديدة المستغلة والتي ما زالت قليلة النضال العمالي. أما في الفصل السابع يصرح كوشيان أنه أصبح من اللازم بناء ديمقراطية إيكولوجية، لا سيما عن طريق غرس السياسة الإيكولوجية في سيناريوهات التحول، بالنسبة للعديد من التقنوقراطيين، الذين يقدمون اليوم سيناريوهات تابثة وفق إملاءات الرأسمالية. تتمثل إحدى طرق هذا التحول الديمقراطي في التحول الإيكولوجي في بدء المناقشات والمداولات الجماعية بشأن الاحتياجات وبشكل خاص التمييز بين الاحتياجات الحقيقية والاحتياجات الزائدة عن الحاجة. لذلك، يجب حسب كيشيان اختراع أشكال جديدة من أنماط العيش والتعبير عن الرأي المغاير، والتي تستحوذ، على المشكلة المركزية للاستهلاكية والإنتاجية، عكس الدفاتر البيئية لـ برونو لاتور أو جمعية المستقبل التي اقترحها الفيلسوف دومينيك بورغ. بالنسبة لعالم الاجتماع كوشيان، فإن الحركة البلدية التحررية للمفكر موراي بوكشين أو المجالس العمالية في الثورة الروسية تظهر كأمثلة ملهمة للتفكير، على سبيل المثال، فإن إنشاء جمعيات المنتجين والمستهلكين تضمن قدوم وبروز وحضور، مجتمع ما بعد الرأسمالي.

في نهاية هذا الكتاب، يمكن للمرء في النهاية أن يتساءل عما إذا كانت مقترحات كوشيان محفزة، خاصةً وأنها بالنسبة لكثيرين جداً أفكارا عملية وإجرائية، لكن من الواضح أن عالم الاجتماع يبذل مجهودا كبيرا لإقناع القارئ المعاصر المشبع برغبة الاستهلاك ومتعة الشراء. يجب أن نقول إن الوحدة الحجاجية للكتاب غالباً ما تترك القارئ متحفزا لمعرفة المزيد. ويبدو كذلك أن الفصول قد تمت كتابتها بشكل مستقل عن بعضها البعض، دون الاهتمام بتماسك الحجة الشاملة، مما انعكس على وحدة توسيع التحليل لكن لم يهلهل وحدة الموضوع، الذي حافظ على نسيجه المتماسك منذ أطروحة المقدمة وتعاقب الفصول إلى أن سعى كوشيان إلى طرح وتطوير عناصر موضوعه محافظا على تماسك فكري للموضوع. ومع ذلك تبقى الحجة مجزأة وفي النهاية غامضة، سواء على نطاق الكتاب بأكمله، أو في فصول معينة. وهذا يخلف انطباعا غير مريح أثناء قراءة بعض النصوص التي تبحث في موضوع راهن وحساس، لكنه لا يستند إلى مرجعية متينة وحديثة كما أن تركيز الكاتب على المرجعية الماركسية فيه نوع من المخاطرة العلمية. وكأن الغرض من هذا الكتاب في النهاية هو: التذكير بأهمية البيان الماركسي في أوقات الأزمات البيئية، ولعل هذا الانزياح ما جعل الكتاب يبقى مجرد صرخة تنبيه وبيانا احتجاجيا وليس مشروعا نظريا لتجاوز النزعة الاستهلاكية التي تؤججها الرأسمالية. يتعزز هذا الانطباع لدى القارئ في الفصل الأخير الذي، بدلاً من الاستنتاج الذي كان يمكن أن يلتقط العناصر الرئيسية وربما ينسج منها ربطا محكما للخيوط الجدلية يشدد الكاتب على الحاجة إلى الجمع بين النظريات الماركسية للاحتياجات عند (غورز وهيلر) وبين نظريات (غرامشي وبولانتزاس) عن تحولات الدولة، ولكن سيكون من الحيف التقليل من منجز الكتاب وطموح مؤلفه. بعيدا عن نقص الحجة والانسجام العام للكتاب، يجب تقدير أهمية تحليله للنزعة الاستهلاكية المعاصرة، وكذلك أصالة المقترحات المقدمة، سواء كانت نظرية أم مقترحات عملية، مثل استخدام مفهوم الوينكوتي للتفكير في الاغتراب الرأسمالي المعاصر، أو في الممارسات العملية، مثل تمديد الضمان، والذي يمكن أن يحقق مجتمعا استهلاكيا عقلانيا ومتحررا.

…………..

الكتاب: الاحتياجات الاصطناعية وكيفية الخروج من النزعة الاستهلاكية

المؤلف: رازميج كوشيان

الناشر: دار لاديكوفيرت.فرنسا

تاريخ النشر: 2019

عدد الصفحات: 202ص

اللغة: الفرنسية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى