عن اللغة والأدب والدين

د.حاتم الأنصاري-أديب وناقد عربي

تأخذني شفقة وعطف على غباء الباحثين في العربية لغةً وثقافةً وحضارةً وتاريخًا وفنونًا حين يجعلونها وسيلة لا غيرُ إلى فَهْم الشريعة والعقيدة وسائر الدراسات الإسلامية.. فيسلكون معها مسلَك الرجل يواقع امرأة في شارع الهرم ليقضي غرضه بأبخس ثمن، ثم يهرول إلى بيته المستقر الذي يشرفه الانتساب إليه.
يا هذا.. العربية ليست نعلا تلبسه كيف شئت ولا دابة تركبها متى شئت لتقضي حاجتك! واعلم أنك لا تذوق ذوق العرب حقا حتى تطلب العربية لذاتها لا لقضاء حاجتك.
إنهم ضلوا قبل أن يسيروا، فصار ضلالهم يزين لهم، فالعربية عند هذا خادمة للشريعة، وعند ذاك لا مشروعية لدراسة العربية إلا لفهم الدين، وعند ذلك يُحترَم الدفاع عن العربية لأنه دفاع عن الإسلام لا غير.
وهذا كله من أعراض المرض.. ومتى كان البحث اللغوي العربي لا غاية له سوى القرآن أو السنة أو الإسلام؟! وهل هكذا كان شعر فحول الشعراء في عصور الإسلام من الفسقة والفجرة والزناة والنصارى واليهود الذي كانوا أعمدة هذه الحضارة وفسرنا بكلامهم كلام رب الناس سبحانه؟ كيف وقد نص عدد غير قليل من أصحاب التصانيف على أنه يؤلف لأن العربية تستحق من حيث هي تاريخ أمة ولغتها وفكرها وتراثها، لا لشيء آخر..
بل ترى بعض المساكين يجعل اللفظة تكتسب الفصاحة باستعمال القرآن لها؟! ألم يفكر بأي شيء كان يتحدى القرآن العرب؟! فكيف يكون القرآن أو الحديث هو المنشئَ لفصاحة لفظة أو جملة أو وضع لغوي أيًّا كان؟!
ثم يعيشون في وهم الحضارة الإسلامية، أو الإسلامية العربية، وينسون أن العالم كله يتحيز فيه كل أبناء أمته لأمتهم، وأن اللغة وثقافتها أبرز محددات ملامح الأمة، والدين بكل تفاصيله جزء من ثقافتها، سواء أكان مؤثرا بقوة أو بضعف..
أجل، ألف علماء في أمتنا العربية الإسلامية [بهذا الوصف وهذا الترتيب الذي يقره العقل والنظر الاجتماعي والفكري للأمم] ألفوا في الدين مستفيدين من اللغة وبحوثها والأدب وشروحه، لا شك، لكن هذه الفوائد بعض فوائد البحث اللغوي والأدبي لا كلها، ولا هي غايتها، بل كان بعض العلماء يقدمون الاحتجاج بالشعر على الاحتجاج بالقرآن في العربية، وهذا مسلك علمي، قبوله ورفضه يتوقف على بحث دقيق في أصول النحو وأصول الصرف وغيرها من العلوم، لكن الاستشهاد هو بوجود هذا المنزع عند بعض أكابر العلماء، ويسرني أن أخبرك بأن بعضهم كان من القراء السبعة!
إن السلفيين المعاصرين الذين أجدهم يبجلون الأستاذ محمود شاكر إنهم لم يقرؤوه على حقيقته، ولو عرفوا الرجل لتجافوا عنه أو رموه بالزندقة أو بأي من وصوفهم الجاهزة.. فمحمود شاكر لم يكن سلفيا بالمعنى المشهور للكلمة الآن، بل العقاد نفسه حين كان يتكلم عن الشِّعْر السلفي كان يقصد به أبا العلاء وابن الرومي ولم يقصد ما في أوهام هؤلاء، ولا بد في فهم الناس من لقائهم أو الإسناد لمن هو متحقق بتراثهم، وليس في السلفيين من يفهم شاكر ولا العقاد ولا الرافعي ولا الإمام أحمد وأنا أقصد ما أقول.
ألا يكفي لتنبه السفهاء جواب الإمام أحمد لأبي داوود يقول له: طلبتَ هذا العلمَ أو قال جمعتَه لله؟ فقال: “لله عزيز، ولكن حبب إلى أمر ففعلته”.
إذا كانت اللغة لا تستحق لذاتها هذا الجهد بل لتعلقها بالقرآن والدين، ففيم أقام الناس المجامع اللغوية للغات لم ينزل بها كتاب من الله، ولم ترتبط بنص ديني؟! فكر يا هذا!
ما أصغرَ عقلك! ولو جَمَعْتَ كل حروف الأبجدية قبل اسمك واسم أبيك واسم أمك معًا جميعًا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى