البيان البلاغي المبتكر في أقوال الرسول الأعظم

رحاب عبد المنير| باحثة في البلاغة والنقد جامعة الأزهر بالقاهرة
كل كلام ينطق به البشر قابل للمراجعة والتصحيح والتعديل إلا كلام سيد الأنام – صلى الله عليه وسلم – فهو يتربع علي قمة درجات البلاغة والفصاحة والبيان البشري.
وقد وصف الجاحظ بلاغة كلام النبي قائلاً: “ولا ينطق إلا بكلام محفوف بالعاصمة”.
وهذا يرجع إلي أن كل ما قاله النبي إما أنه وحي أو مؤيد بالوحي.
فالنبي يوحى إليه بالمعنى ثم يعبر عنه باللفظ فإذا جاء بلفظ لا يناسب الوحي المعنوي عدله من الله عز وجل.
وما قال النبي كلمة إلا وهي مربوطة بالبلاغ عن الله وهذا كله جعل بيان النبي يتربع علي قمة البلاغة والفصاحة فلا يوجد من البشر أفصح من رسول الله لأنه مبلغ عن ربه جل علاه.
يقول صلى الله عليه وسلم:”أوتيت جوامع الكلم”، ويقول أيضاً: أختصر لي الكلام إختصارا”، ويقول:” أنا أفصح العرب بيد أني من قريش”.
ومن بيانه النبوي الشريف أنه صلى الله عليه وسلم استحدث معاني ودلالات جديدة لم ينطق بها أحد من البشر قبله ولم يدعيها أحد من البشر بعده ،فكانت هذه المعاني مبتكرة من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
لأن الاببتكار في اللغة يراد به الإنشاء والاختراع على غير مثال فحق لنا أن نطلق علي هذه المعاني إسم البيان المبتكر من كلام سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.
واقتصر حديث العلماء عن بيانه صلى الله عليه وسلم المبتكر على إشارات الجاحظ نجده يشير إلى هذه العبارات من كلام النبي ويقول عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بعبارة كذا ولم ينطق بها أحد من العرب قبله ثم يمضي دون تحليل، وفي العصر الحديث لم نجد من العلماء من تحدث عن البيان المبتكر في كلامه صلى الله عليه وسلم سوي الرافعي في كتابه إعجاز القرآن.
والسؤال الآن: كيف عرفنا أن هذه العبارات لم ينطق بها أحد قبل النبي وأنه أول من إستحدثها؟
والجواب: أن الشعراء أفصح الناس الذين يملكون زمام اللغه العربيه ويعرفون طرق ومسالك الشعر وكيف تصاغ المعاني أقروا بأن هذه المعاني لم يسمعوها من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن بيانه المبتكر صلي الله عليه وسلم قوله”يا خيل الله اركبي”.
قالها النبي حين أغار أربعون فارسا علي لقاح لرسول الله وأخذوا الإبل الخاصة بالصدقة وهربوا.
فنادي النبي في الناس قائلاً: “ياخيل الله اركبي”، فقدم المقداد بن عمرو وأعطاه النبي اللواء وقال له امضِ حتى يتبعك الفرسان.
وقد أشار الجاحظ إلي هذه العبارة بأنه لم ينطق بها أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا فهي تعد من البيان المبتكر علي لسان النبي.
والمقصود من العبارة هلموا، وأقبلوا ،وهموا كلها معاني ل”يا خيل الله اركبي”
والبلاغة كل البلاغة والفصاحة كل الفصاحة في صياغة النبي للعبارة
فقد بدأ بأداة النداء “يا”وهي توحي بعلو الصوت لأنه نداء
أيكون النداء بدون علو وارتفاع للصوت؟
الجواب: لا حتي يسمع من يستطيع أن يجيب
“ياخيل”أيكون النداء للخيل؟
والجواب:لا
بل أنه ينادي على الفرسان الموجودين،فاللغة تجيز ذلك فتخاطب الدابه بخطاب راكبها
ومنه قول الله عز وجل: “أيتها العير إنكم لسارقون”
والنداء على الخيل يحمل عدة معاني فهو يريد أن يقول:ياقوي من الناس كالخيل،ياسريع من الناس كالخيل يا مطيع من الناس كالخيل.
وفي إضافة الخيل الي الله معني وهو أي أن الذي يمسك بذمام أمرك أيها الفارس هو الله
وهو بذلك شبه جنود الله بخيل الله وهذا شرف عظيم.
ومن بيانه المبتكر صلي الله عليه وسلم قوله:”هدنة على دخن”
وهذه العبارة تضرب لكل من عقد صلحا دون أن ينهي المظالم
وعبقرية النبي في صياغة العبارة تتلخص في أنه أتي بلفظين أحدهم من عالم الحروب والمعارك وهو الهدنة التي تعني المصالحة وصاغها مع لفظ آخر من عالم الطبخ والطعام هو الدخن لأن أصل الطعام أنه يوضع على النار لإتمام انضاجه فإذا وضعته على الدخان بدون نار فإنه لا ينضج ولكن يسخن وهذا يؤدي إلى فساده فإذا أكل منه آكل هلك.
وكأن الهدنة طعام وضع على الدخان ففسدت الهدنة لا لأنها طعام ولكن لأن فيها عوامل فساد وحقوق لم تقضي.
ومن بيانه أيضا المبتكر في كلامه صلى الله عليه وسلم قوله:”مات حتف أنفه”
بعض الصحابة كانوا يتحدثون عن موت الصحابي الجليل عثمان بن مظعون دون عله قائلين”لاشك أن من مات شهيد هو أفضل من عثمان”
فقال النبي هذه العبارة موضحاً بها أن أجره على الله ،ولم تسمع هذه العبارة من قبل أن قالها النبي صلى الله عليه وسلم
والحتف في اللغة هو الهلاك والموت
والمعنى أنه مات لموت أنفه يعني إنقطاع النفس فهي من قبيل المجاز المرسل لعلاقة السببيه أو المحلية
والمراد منها: أنه حتى لومات بسبب انقطاع نفسه فهو يستحق أجر كالشهيد.
وهذا البيان المبتكر باب عظيم من أبواب إثراء اللغة ومن أبواب فتح النظم على وجوه لم تسمع من قبل وهذا يزيد من عنفوان هذه اللغة فهي لا تموت أبدا فهي بحر يضم كل ما يلقي فيه كلما وضعنا فيه شيئ زاد ولكنه ماينضح أبدا
وكل شيء يضيف جديد إلي هذه اللغة يعد من المحاسن التي تمدح
وقضية الإبتكار تكشف عبقرية اللغة في ضم الألفاظ لتحدث صور معاني فكلما ابتكرت في عملية الضم والربط كلما أنشأت صور جديده من صور المعاني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى