سيمياء تمظهرية الغربة الوجودية في الشكل النصي 

 باسم عبد الكريم العراقي| شاعر وناقد عراقي

دراسة تحليلية عن نص (جئت دوني ) للشاعر اللبناني.. عصام رامز سلمان

أولا النص:

***

قَدْ

عُدْتُ

بِغَيْرِ إِيابٍ،

وِسْعَ غِيابِيَ

جِئْتُ،

وَصَلْتُ

بِدُوْنِيَ لَكِنْ

قَلْباً مَحْضاً

كُنْتُ.

*****

هُوَ

وَقْتــِـي

مَنْفايَ الأَقْصَى،

هُوَ وَقــْتـِـي

يَحْجُبُنِي

عَنِّي…

يَمْحُو

إِصْغائِيَ،

يُسْكِتُ لَوْنِيَ،

يُطْفِئُنِي،

وَأَنا

أَتَغَرَّبُ

فِيَّ بِلا حَدٍّ،

أَتَكاثَرُ دُوْنَ

لِقاءْ،

أَتَمَشْهَدُ

وَهْمَ مَرايا، آهِ،

أَقوْدُ حُضُوْرِيَ

خارِجَنِي،

وَأَفِيْضُ

بَعِيْداً عَنْ

مَعْنايَ.

أَفِيْضُ

وَقَلْبِيَ أَكْوانٌ

أُخْرَى،

أَبــْعَدُ

مِنْ أَحْلامِ

الرِّيـْحِ،

وَأَرْحَبُ

مِنْ ســـِــرِّ

الأَزْمانْ.

*****

مَنْ

يَرْصُدُنِي

فِي نَهْدَةِ شَمْسٍ،

ضَوْعَةِ بَرْقٍ

مَنْ.

مَنْ

يَكْتُبُنِي

بِحُرُوْفِ المَحْوِ

عَلَى جَسَدِ

الأَوْقاتْ.

مَنْ

يَسْمَعُ صَمْتِيَ

مَســْـقوْفاً بالضَّوْءِ

وَيُبْصِرُنِي مِنْ

غَيْرِ لُغاتْ.

لا…

لا تَكْفِيْنِي

أَزْمِنَتِي لأَعُوْدَ

إِلَيْ.

تَكْفِيْنِي

فِكْرَةُ شَوْقٍ،

نَبْضَةُ صِدْقٍ،

وَجْهٌ يَتَوَهَّجُ فِيْهِ

القَلْبْ.

……

ثانيا الدراسة:

موضوعة الغربة الوجودية ، ( بحث الذات الداخلية الخاصة عن ماهية وجودها ومعناها خارج ضوابط وقياسات واقعها القِيَمية الماقبلية القهرية )، تكاد تكون العلامة الفارقة في الشعر الحداثوي ومابعده ، ورغم كثرة تداولها من قبل معظم الشعراء كثيمة لنصوصهم ، الا انها تظل مصدر الهامهم المتجدد ، للثراء الفني والمعنوي لدلالاتها المتولدة من عديد تقابلات تلك الذات مع الذات الخارجية الاجتماعية / مكافئوها الدلالي الآخر الموضوعي ،التي تأخذ عدة مسميات ، كتقابل الذاتي / الموضوعي ، الحسي المجرد / الملموس الواقعي ، اللاوعي / الوعي ، الذات اللامنتمية / المنتمية ..الزائف / الحقيقي … وغيرها ، ولعل الشعراء ،لاسيما الحداثويين ،بنزعتهم التواقة للانعتاق من قيود الايديولوجيات الاخروية ( بشتى انواعها ) ، والمؤسسات السلطوية ،المهيمنة على الوعي الجمعي ، هم اكثر من يعيش هذه الغربة، المصدِّعة لسلامهم الداخلي ، بما تثيره فيهم من اغترابية مكزمانية وايديولوجية فكرية ، تبعث في اعماقهم مشاعر القلق والتوتر ، واللاتآلفية مع واقعهم الجمعي ، فيعلنوا تمردهم على قهرية ذلك الواقع ، ويجاهروا بثورتهم على سطوته المانعة لعناقهم ذاتهم تلك ، فيرفعون لواء تغربهم في ملكوت عوالم ماورائية ، مطلقة الوجود ، عارية من المسميات ، ، فلاعجباَ ان تشكل هذه الغربة ،هماً شعرياً

متجدد الحضور في نصوصهم الابداعية ، برؤى ومعالجات فنية متعددة . ونص ( جئتُ دوني ) ، موضوع دراستي ، وهو من جملة تلك النصوص ، يثير اشكالية الغربة من خلال مظهرتها في البناء الهكيلي لشكله وبنية لغة سطحه الفنية ، وكما ستبينه دراستي هذه ، التي سأبدأها بتفكيك عتبته العنوانية :

( جئتُ دوني ) :

تفكيك سيميائية اشارتي العنوان :

البنى الدلالية ، النحوية ، والتركيبية :

*الاشارة المركبة ( جئتُ )

ـ دلالياً : (جاء ) اشارة لدال فعلي مكاني ، معنى مدلوله اللغوي ( حضر) مشروط ضمنياً بانتهاء اثر حدث / فعل ( ماقبل ـ مكاني ) مقابل له هو : ذهب ، ترك ، غادر . فلولا انتهاء اثر الذهاب الذي سبقه زمانياً ، لفقد المجئ دلالته المعنوية وكما يلي:

الذهاب / مغادرة مكان ما .. / يسبق ويسبب ويقابل/ .. المجئ / حضور .

وهما اشارتان مكانيتان لهما دلالة الانطلاق ( فعل حركي انتقالي ) من نقطة ابتداء ، الى نقطة انتهاء محددتين ،

غير انهما متعارضتا الاتجاه : ذهب الى … من / جاء من … الى .

اذاً : الاشارة ( جاء ) تبدأ حيث تنتهي الاشارة ( ذهب ) مكانياً .

ـ نحوياً :

جئت : فعل ماضٍ متصل بتاء الفاعل / الشاعر،دلالته المكانية مقطوعة ، لعدم تعديته لا بذاته نحو :

جئتُ المكانَ ) ، ولا بحرف جر مثل ( جئتُ من أو الى المكان )، فغدا ( المجئ) هنا لامكانياً ، ولكون مدلوله المعنوي مشروطاً ضمنيا بحدوث الفعل الماقبلي / ذهب ، لذا تسري اللامكانية على هذا الفعل كذلك ، واللامكانية تعني الحسية

اي ان الفضاء الظرفي الذي حصل فيه الحضور / الذهاب ، هو لاوعي الشاعر ،

* الاشارة العنوانية الثانية ( دوني ) :

ـ دلاليا : الاشارة ( دُون ) اسمية ، متعددة الدلالات ( فهي اسم ، ظرفية مكانية ،اسم فعل امر) ،انتفت دلالتها الظرفية كما مر بنا اعلاه ، اما دلالتها ( الإسم فعلية ) فممتنعة سياقياً ، فلا يصح ان ( يأمر) احدٌ نفسه ، لذا تبقت دلالاتها الاسمية التي يجوز فيها ان تُسبق بحرف الجر ( من ) / من دون ، او اهماله ، وفي الحالتين يكون معناها : من غير، او مايقاربها دلالةً ، نقول مثلاً : لبّى فلانٌ الدعوةَ دونَهم / اي : لبّاها وحدَه من غيرهم / او من غير ان يلبّوها هم . .

ـ نحوياً 🙁 دون ) مضافة الى ياء المتكلم ، مما جعلها مخصصة المعنى بصاحب تلك الياء ( الشاعر ).

مقاربات دلالتي الاشارتين اعلاه معنويا :

ـ مقاربة معنوية : جئتُ دوني = حضرتُ من غيري

ـ مقاربة باستدعاء مصدر الفعل ( حضر ) المؤول : حضرت من غير ان حضر

ـ مقاربة بتحويل الضميرين المتصلين الى منفصلين / حضر انا من غير انا

ولما كان تقابل الفعلين تقابلاً مكانياً ، فهو اذا إلغائي ، اي ان رُكنَيه (حضر / ذهب ) يلغي احدهما الاخر مكانياً وفق منطقيات الواقع المادي.

* البنية التركيبية للعبارة العنوانية : لارابط دلالي بين اشارتيها ، فـ (جئتُ) فعل انتقالي ، ينفذه من يقررُ الشروعَ به ( الفاعل وهو هنا تاء المتكلم ) ، فهو واعٍ ، فلا يقرر امراً ما، وينفذه الّا من امتلك وعياً ، غير ان الاشارة المقابلة ( دوني ) ألغتْ هذا الوعي ، كما مر بنا آنفا ، مما يعني انقطاع الصلة الدلالية بين مُركّبَي العبارة العنوانية ، مما افقدها معناها الظاهري، اي انها ( جملة غير مفيدة كما يذهب علماء اللغة ) ويعزز هذا الرأي سؤالان يثيرهما ما سكت عنه العنوان من مقاصد ، هما :

ما هي الغاية من ذلك الذهاب ؟؟ وهل بلغها الشاعر لكي يقرر المجئ ؟

لكننا حين نعيد تركيب ماانتجه التفكيك من دلالات تتولد لنا معان جانبية تتجمع لتشكل معنى العنوان التحتاني :

ان العنوان هو ( شيفرة ) ذات بنية دلالية توتُّرية تقابلية ( الحضور / الغياب ) ، تبعث رسالةً مفادها : ان من ذهب وجاء ، ماهو الا اثرٌ واعٍ ، حسي عابر لحدود المكزمان الفيزيقي ، يمكن مقاربته دلالياً بأنه ( ذات ) الشاعر الواعية ، بدأ ذهابها من الذات الخارجية ( اي المفروضة على الشاعر من قبل الواقع ) ، وانتهى بالذات الوجودية الداخلية ، ومنها ( جاءت ) ، ومجيئها كان الى نفس المكان الذي ذهبت منه، بدلالة انقطاع فعل عبارة العنوان ( جئتُ ) عن التَّعْدية كما اسلفت ، غير ان هذه الذات تشظت ، فتركت وراءها بعضها ( الذات الوجودية الباحثة عن معناها ) في ذلك العالم الميتافيزيقي ، وجاءت ببعضها ( الذات الواعية ) ، لذا فإن العنوان هنا لايمثل مفتاحا ، كما هو متعارف عليه تحليليا وقرائياً ، بل هو يمثل ( النص الحقيقي ) بشيفرةٍ مكثفة الدلالة ، والمتن هو العنوان الذي علينا تفكيكه كي نعرف ماذا تحقق من رحلة تلك الذات الواعية للبحث عن الذات الوجودية ؟

تحليل المتن :

غربة الذات الوجودية،تبدأ بالسؤال الكبير :من أنا ؟ يطلقه من وعى ان منطق ،ايديولوجيا آخروية شمولية / مؤسساتية، متمظهرة في واقعه المكاني الجمعي ، بجملة ضوابط ( اعراف ، تقاليد وقيم اخلاقية وحتى عقلانية ) موروثة قاهرة،يعارض ويصادر معناه الوجودي الفردي و تتحكم بكيانه الانساني وفق ارادة / ارادات ، متسلطة / قامعة (بهذا المعنى او ذاك ) ترسم له وتحدد له حتى احلامه ، رغباته ،غاياته وتطلعاته الانسانية، وفق قياساتها القدسية للمسموح / ممنوع .

ذلك (السؤال ) اذاً يمثل ( موقف ) ذات وجودية امتلكت رؤيا ( لارؤية فهذه وقفٌ على الذات الواقعية الخارجية) اتاحت لها ( اكتشاف ) حقيقة ان كنهَ معناها لايمكنها التعرف عليه هذا العالم الواقعي المحسوس المغلق ( الفيزيقي ) بل في عالم ميتافيزيقي ، لاتحده حدود ، عارٍ من كل مسمى ، او اثر للمعاني الزائفة ، عالم لانهائي الدهشة، يلتقي فيه المعقول باللامعقول ، المحسوس باللامحسوس ، المألوف باللامالوف ، في هذا العالم فقط تستطيع التعرف على ماهيتها بذاتها.

وهذا الموقف تتخذه الذات الواعية بعدما تمر بثلاث مراحل مؤسَّس بعضها على بعض تصاعدياً ، تمثل المكافئ الموضوعي لموضوعة الغربة هي :

الاولى ـ شعور تلك الذات بالتعارض بينها و بين الواقع الخارجي وسائر مؤسساته الايديولوجية السلطوية وهذا يعني انها امتلكت رؤيا نافذة ، تفتح لها سبل الاتعتاق من قهرية ذلك الواقع .

الثانية ـ توترها القلقي الناجم عن التعارض اعلاه ، وما يؤدي اليه من حالة صراع داخلي (شعوري انتمائي / لاشعوري لاانتمائي ) للواقع ، وهنا يتولد الشعور بالغربة ، والسعي للكشف عن معناها الوجودي ، خارج هذا العالم المقنع بالخديعة .

الثالثة ـ بعد عناقها الذات الوجودية ( اللاواقعية ) ، والتعرف على ماهيتها ، تحملها تصدعاتها في منفاها على العودة الى ذات منطلقها الواقعي ( محاولة رأب تصدعاتها تلك ، وهو نزوع مستحكم في النفس البشرية في الوصول الى سلامها الداخلي ) لتظل الذات الوجودية في عالمها اللاواقعي ، وهيكلية بناء شكل المتن تظهر انه مركب من ثلاثة مقاطع بما يشاكل المراحل اعلاه … لكن اعادة قراءة هذه المقاطع قراءة فنية، تظهر ان الشاعر بذكائه ، وبما امتلكه من ادوات دلالية تعبيرية ، وتمكُّنٍ مقارباتي معنوي ، لجأ الى كسر بنائية الشكل التصاعدية الاصولية ( مقطع 1 ثم 2 ثم 3 ) فوضع ثالث المقاطع في البداية ، وختم النص بالمقطع الاول ، كما سأوضح هذا ادناه ، وهو بهذا قصد المقاربة الشكلية مع تعارض ذاته الوجودية مع نسقية النظام المؤسساتي المؤدلج ومنها المؤسسة الثقافية ( كما اشرت لهذا في المرحلة الاولى اعلاه ) فالشكل النصي الاصولي ، ذو مرجعية آيديولوجية ادبية ماقبلية ، والخروج عنه / كسر نظامه ، يمثل اشارةً ايحائية لتمرد الذات الوجودية على اصولية الواقع / كسرها اياه .

فالقراءة التحليلية لمقطع النص الثالث ، تظهر انه ينبغي ان يكون الاول فنياً ومعنوياً ، وكما يلي :

المقطع :

(( مَنْ

يَرْصُدُنِي

فِي نَهْدَةِ شَمْسٍ،

ضَوْعَةِ بَرْقٍ

مَنْ.

مَنْ

يَكْتُبُنِي

بِحُرُوْفِ المَحْوِ

عَلَى جَسَدِ

الأَوْقاتْ.

مَنْ

يَسْمَعُ صَمْتِيَ

مَســْـقوْفاً بالضَّوْءِ

وَيُبْصِرُنِي مِنْ

غَيْرِ لُغاتْ.

لا…

لا تَكْفِيْنِي

أَزْمِنَتِي لأَعُوْدَ

إِلَيْ.

تَكْفِيْنِي

فِكْرَةُ شَوْقٍ،

نَبْضَةُ صِدْقٍ،

وَجْهٌ يَتَوَهَّجُ فِيْهِ

القَلْبْ.))

وفق سيرورة الحدث التصاعدية ، يجب ان يكون الاول ،كونه يماثل اولى مراحل الغربة المذكورة في اعلاه ، كما يؤكده هذان المؤشران :

ـ الاشارة / مََن ، المؤكدة بالتكرار ، اسمية استفهامية ( على الرغم من انه استفهام غير حقيقي يفيد النفي ) في :

( من يرصد . ؟ / من يكتبني ؟ / من يسمع صوتي ؟ )

هي عينها الواردة في السؤال الغربوي اعلاه : من انا ؟ ، كلتاهما موجهتان خطابياً لآخر عاقل .

2 ـ البنية الدلالية اللاواقعية لاشارات المقطع ، والتركيبية اللامنطقية لصوره ، تقابل بنيتهما في سياقهما الواقعي المنطقي .وكما في :

( فِي نَهْدَةِ شَمْسٍ )

هنا يؤنسن الشمس ويجعلها تتأوه وتزفر الما / صورة لاواقعية مقابلة للواقعية حيث الشمس محض جرم صخري ميت يحترق

(ضَوْعَةِ بَرْقٍ )

الصورة اعتمدت في دلالتها الرمزية ( تراسل الحواس ) ، فركناها متباعدا الاشارة ، ليسا من جنس دلالي واحد ، الاول ( ضوع ) يشير الى محسوس شمّي حي ( رائحة فواحة ) ، والثاني ( برق ) يشير الى محسوس مرئي فاقد للحياة ( وميض ضوئي ) / صورة لامنطقية ان يعبق البرق / مقابلة لمنطقية صورالواقع ( خصوصية الاستجابة الحسية ولاحلوليتها / فالعين لاتشم والانف لايرى )

والبنية الصرفية للاشارتين ( نهدة ، ضوعة ) / مصدرا مرَّة ، تؤكد عجز الاخر الواقعي الذي يقوم بالرصد (يرصدني) ، عن ملاحظة ( معنى يرصد ) تقاطع تلك الذات مع واقعها مرة واحدةً … وهو ماعززت دلالته البنية النحوية كما اسلفت (الاستفهام غير حقيقي يفيد النفي ) ، و مقاربة دلالة غربة الذات ستكون متولدة عما سبق من دلالات كما يلي :

لا يلاحظ الاخر الواقعي لاواقعية الذات الوجودية مرةً واحدة = تقابلهما = غربة تلك الذات

( مَنْ

يَكْتُبُنِي

بِحُرُوْفِ المَحْوِ

عَلَى جَسَدِ

الأَوْقاتْ.)

انزياحات معنوية ترسم صورة مافوق عقلانية تبعث على الدهشة لا يقوى الاخر الواقعي على كتابتها اي عجزه عن خلقها حيةً / الكتابة عملية خلق للمكتوب تجعله ناطقاً ( له صوت ) ، مرئياً ( له صورة ) ،عاقلاً ( له دلالة معنوية) وله عمر ( هو زمن فعل الكتابة )

الصورة هذه تقابل نظيرتها في الواقع الكتابة بحروف ظاهرة تخط على القرطاس

كذلك نلمس التقابل في :

( يَسْمَعُ صَمْتِيَ)

( يبصرني

من غير لغات )

حيث ( قلَبَ / هدَمَ ) منطق العلاقة التلازمية بين ركني السببية : الصوت سبب للسماع والصور سبب للابصار بعد ان عرف الشاعر تقاطعية ذاته مع واقعه ، مؤكدا ذلك بتكرار ( لا ) النافية لكل صلة بينهما ، واقراره بغربته الوجودية العابرة للزمن المعاش

(( لا…

لا تَكْفِيْنِي

أَزْمِنَتِي لأَعُوْدَ

إِلَيْ.))

لاح له وجه ذاته فإذاها لاتطلب الكثير :

( تَكْفِيْنِي

فِكْرَةُ شَوْقٍ،

نَبْضَةُ صِدْقٍ،

وَجْهٌ يَتَوَهَّجُ فِيْهِ

القَلْبْ.))

ولنتوقف قليلاً بالتفكيك العجول عند ما تطلبه ذاته الوجودية :

ـ تَكْفِيْنِي : كفاية ذاته من الوجود في ( فكرة ، نبضة ،) مخصصتين بالاضافة الى شوق ، صدق و في ( وجه ) موصوف بـ ( يتوهج )

ـ فِكْرَةُ شَوْق : ذاته تطمح للتفكير بالاشتاق لكن .. الشوق هنا مقطوع عما يصفه او يحدد المقصود به شوق الى من او ما ؟ ولأنه مقابل للشوق المستنفذ المقاصد واقعيا ، فهو حتما شوق لمعنى او وجود خارج مدار المألوف او المقرر مؤسساتياً كذلك (نَبْضَةُ صِدْقٍ) ، فالصدق هنا بنفس التجردية من المألوف

ـ وَجْهٌ يَتَوَهَّجُ فِيْهِ

القَلْبْ. : هو وجه تشع فيه المحبة بلا قسمات

المسكوت عنه : الشاعر يؤكد وعيه التام بما ينشد ( ذاتاُ غير منتمية لهذا العالم العتيق الحدود والمعاني ) ، وعليه البدء برحلته بحثا عنها في عالم مطلق البراءة يتحقق فيه معناها ، اذاً المقطع يمثل مرحلة الاعداد لهذه الرحلة ، وتفكيك البنية الزمنية لجميع اشارته الفعلية ( بدءاً من/ يرصدني … وانتهاءً بـ / يتوهج ) ، يظهر ان زمنها الحدثي هوالزمن الحالي / الآني ( المضارع ) المفتوح على المستقبل ، مما يوافق الزمن الرؤيوي لتلك الذات ، فالذات بعد ان تعي غربتَها ، تقوم بفعل ( الرؤيا ) المنطلق من لحظة الوعي ، امتداداً للمستقبل .لذا فان هذا المقطع هو ما يمثل المرحلة الاولى من رحلة البحث عن الذات الوجودية ، وحقة ان يكون مقطع النص الاول .

يدعم هذه الأحقية ، تفكيك واعادة تركيب دلالات المقطع التالي :

( قَدْ

عُدْتُ

بِغَيْرِ إِيابٍ،

وِسْعَ غِيابِيَ

جِئْتُ،

وَصَلْتُ

بِدُوْنِيَ لَكِنْ

قَلْباً مَحْضاً

كُنْتُ.)

حيث يتولد لدينا من الاشارات و المقاربات المعنوية ، ما يدلل على أنه هو المقطع الاخير ( الثالث ) الحقيقي ، في جسد النص ، الذي اظهره في الصدارة ( مقطعاً اولاً ) . و هذا ما سيبينه هذا الاشتغال التفكيكي :

ـ البنية الدلالية ، النحوية للاشارات الفعلية الواردة في المقطع :

* (عدت ، جئت ، وصلت ) دلالياً :

تلك الاشارات دوال فعلية ، تلتقي مدلولياً ، في معنى مشترك هو / الحضور، المتضمن معنى مقابله / الذهاب ، وهذه الاشارات مقطوعة مكانياً ، مما جعلها حسية ، ظرفها الحدَثي هو اللاوعي ( يُنظر دراسة وتفكيك

العنوان / الاشارة جئت ) .

* نحوياً :

هي اشارات لأحداث ماضوية الوقوع مما يدل على انها مؤكدة الحدوث ( الفعل الماضي مؤكد بذاته ) ، وهي قد اتصلت بذات الضمير ( تاء المتكلم ) لتشير لذات الفاعل / الشاعر الغريب ، وتكرار هذا الضمير، هو توكيد له ايضا ، والحرف ( قد ) افاد التوكيد بدور كونه دخل على ماضٍ ( حرف تحقيق) .كما ان تكرار تلك الاشارات رغم اتفاقها معنوياً بما يجعلها شبيهة بالمترادفات ،افاد ( التوكيد بالتكرار) .

ان توالي حالات التوكيد اشارة الى اثبات حضور / عودة ، الذات الواعية من رحلتها الاستكشافية المافوقية المار ذكرها سابقا ( رحلة البحث عن الذات الوجودية ) ، رغم انه حضور منقوص :

( عُدْتُ

بِغَيْرِ إِيابٍ،

وِسْعَ غِيابِيَ

جِئْتُ،

وَصَلْتُ

بِدُوْنِيَ )

فالاشارات ( بغير اياب ) ، ( وسع غيابي ) ، ( بدوني ) ، دلت على انشطار الذات الواعية الى ( ذات واقعية ) وهي التي حضرت ، و(ذات لاواقعية وجودية ) تخلفت ، وهاتان الذاتان متناظرتان

وهو حضور لابد انه أُنجز بعد تحقُّقِ كل او بعض الغاية التي كانت الباعث على ( الذهاب ) ، وهذا ما يقرره ويعلنه ماجاء في نهاية المقطع :

( قَلْباً مَحْضاً

كُنْتُ.)

فالشاعر ( اكتشف ) بعضاً من معناه الوجودي ، هو انه رمز محبة مطلقة غير مشروطة ( قلباً محضاً )، وهذا الاكتشاف كان السبب لكينونته ( كنتُ ) ، وفق التفكيك التالي للبنية الدلالية للاشارات السابقة :

*القلب / بالإحالة الخارجية / الموروث الشعبي : مصدرالمشاعر والعواطف واولها المحبة

*المحض / لغةً : النقي الخالص من الشوائب ، ولان ( محضاً ) صفة لموصوف حسي ( قلباً ) وفق دلالته السابقة ، فالشوائب هنا حسية بالتبعية ، فتعني كل مقابل للمحبة والمشاعر الصادقة كالنفعية مثلا ،

الدلالة السياقية للاشارتين : محبة خالصة بلا مقابل

* كنت : كان / لغة : فعل التكوّن ،ومنه الكائن . الكيان ، الكينونة ، وهو مشعر بضديده / غير كائن / عدم ، فهواذاً فعل انتقالي مشروط بوجود فاعل مكوِّن ، كما في المخطط :

لاكينونة ( عدم / لاوجود ) ــــــــــــــــــــ مكوِّن ــــــــــــــــــــــ كينونة ( وجود )

وباستدعاء حسية الصفة والموصوف اعلاه :

لاكينونة حسية ( عدمية معنوية ) ـــــــــــــــــــ مكون حسي ــــــــــــــــــ كينونة حسية ( وجود معنوي )

وباعادة تركيب الدلالات اعلاه :

ذات واقعية فاقدة لمعناها ـــــــــــــ محبة خالصة بلا مقابل ـــــــــــــ ذات لها معنى وجودي

يتبن لنا ان دلالات المقطع اعلاه ، متقاربة تماما مع اشارات المرحلة الغربوية الثالثة ، مما يضيف تأكيداً اخرعلى ان هذا المقطع هو الثالث نصياً.

واذا ماعدنا للمقطع الثاني في النص ، وجدناه في موضعه النصي الحقيقي ، فهو يقارب المرحلة الغربوية الثانية في السياق المعنوي للشكل النصي ، فهو متمفصل ( نتيجة / سبب ) ، مع المقطع الاول الحقيقي ( الذي ابنّاه اعلاه ) ، وكذلك متمفصل مع الثالث الحقيقي ( سبب / نتيجة ) ، وكما يتضح مما يلي :

يبدأ المقطع باعتراف صريح بالنفي مؤكد ( بالتكرار ) :

( هُوَ

وَقْتــِـي

مَنْفايَ الأَقْصَى

هو وقتي )

ودلالة الوقت بالاحالة الخارجية / الفيزياء : المسافة الزمنية الفاصلة بين الأحداث يتمكن بواسطته وعي الإنسان التمييز ما بين الأحداث ( وقائع مادية ) التي يعيشها، بحيث يستطيع التفرقة ما بين الأحداث اللحظية ، والتي تتحول إلى ماضٍ، وبين التنبؤ باللحظات المستقبلية،

اي ان دلالته مشروطة بمكان تجري فيه تلك الاحداث وهي ما يستمد منها حضوره ومعناه ، فتكون مقاربة (وقتي منفاي ) المعنوية :

منفى مكاني متمرحل وقتياً = الواقع الآني المعاش

اذاً فهذا الاعتراف بالنفي ، وهو من مرادفات الغربة الدلالية ، يمثل ( نتيجة ) لسبب مثلته المرحلة الاولى ( التعارض مع قهرية الواقع ) ، تعارض افضى الى توتر مقلق داخليا رسمته هذه الصور الحركية الغرائبية الكاسرة للمألوف والمعقول ( تعبيراً عن كسر النظام والمنطق الواقعي كما اسلفت سابقا ) ، ذات البنية السينمائية ( تتابع حالي الزمن / مضارع ، متوالٍ بلا فواصل ، مكثف الاشارات ، حاد الانزياحات ) للايحاء بتوالي وقع التوترالمذكور واستمراريته :

( يَحْجُبُنِي

عَنِّي…

يَمْحُو

إِصْغائِيَ،

يُسْكِتُ لَوْنِيَ،

يُطْفِئُنِي )

والتوتر يبدو في التقابلات الصراعية بين كل فعل من الافعال اعلاه في الواقع والمسكوت عنها في اللاواقع كما في :

يحجبني / يُظهرني ، يمحو / يكتب ، يُسكت / يُنطق ، يطفئني / يوقدني

وهذه الصراعية كانت نقطة التحول الى الشعور بغربة مكزمانها ذاته الداخلية :

( وَأَنا

أَتَغَرَّبُ

فِيَّ بِلا حَدٍّ )

غربة تتناسل بذاتها ( صورة غرائبية ) :

( أَتَكاثَرُ دُوْنَ

لِقاءْ )

وهو لايلوح موجوداً الا في عيون الآخر :

( أَتَمَشْهَدُ

وَهْمَ مَرايا، آهِ )

وتتوالى الصور اللامنطقية التركيب ليعبر عن اشكال غربته الذاتية :

(أَقوْدُ حُضُوْرِيَ

خارِجَنِي،

وَأَفِيْضُ

بَعِيْداً عَنْ

مَعْنايَ ).

الفيض ( احالية خارجية / الفلسفة ) : صدور الموجودات او المحسوسات عن موجودات او محسوسات اخرى كفيض الضوء او الحرارة من الشمس

فهو يفيض معنى ذاته الداخلية ، في عالم اخر بعيد عن معناه في الواقع ، معنى متحرر من حدود الواقع وما تتصوره الاذهان المحكومة بمنطق الاشياء :

(أَفِيْضُ

وَقَلْبِيَ أَكْوانٌ

أُخْرَى،

أَبــْعَدُ

مِنْ أَحْلامِ

الرِّيـْحِ،

وَأَرْحَبُ

مِنْ ســـِــرِّ

الأَزْمانْ.)

وهذا الفيض يمثل الشق الثاني من المرحلة الغربوية الثانية (السعي للكشف عن معناها الوجودي، خارج هذا العالم المقنع بالخديعة ) يتمفصل كسبب مع المقطع الحقيقي الثالث الذي يُعدُّ نتيجةً له ( عناق الذات الوجودية ( اللاواقعية ) ، والتعرف على ماهيتها )

وبهذا نجح الشاعر ايما نجاح ، في مظهرته الغربة في شكل نصه ، في بنائه الهيكلي وبنيته اللغوية الفنية وهذا ما اظنه سابقة تحسب له في هكذا معالجة شكلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى