أدب

اترك ذاكرتك مفتوحة.. اترك المقبرة

شعر : البهاء حسين | القاهرة

أنا كثير النسيان

لكن ليس فى نيتى أن أفرّط فى ذاكرتى
سأموت، إن كان من الضرورى أن أموت
وذاكرتى معى
كجندى لم يجرده أحد من سلاحه
ما فائدة الجندى من غير سلاح
:
الحياة حرب
وذاكرتك هى الجبهة
،،
لا غنى عن الذاكرة لمن يريد أن يحب
كيف تنسى حبيبتك، مثلاً، لأن الزهايمر يجبرك على ذلك
كيف تنسى ضناك
لا تعرف وجهه من بين الوجوه
لا غنى للأم عن الذاكرة

 

للفنان الفلسطيني عبدالهادي شلا

،،
لكى تعرف حياة امرأة
عليك أن تعرف الطريقة التى ماتت بها
لكى تعرف كيف فقدت إحداهن الذاكرة
ضع حياتك فى الظلام
أعوامك الثمانين
وامش إليها متحسسًا الطريق بيديك
عليك أن تصغى لعويل الريح فى إحدى المداخن المهجورة
،،
كيف تنظر امرأة لنفسها فى المرآة بذاكرة فارغة
كيف تعرف ملامحها
كيف تجابه الشتاء بلبس خفيف
الزوج الذى لا يخرج من نفسه، ليتفقد أبناءه
:
يا لها من امرأة
كانت تدارى قلبها كأنه عورة
كأن صغارها ليسوا بحاجة للحب
لهذا كبروا
ملأوا البيت من حولها، دون أن يجد أحدهم الآخر
:
كان بإمكانها أن توزع على كل واحد ما يكفيه من القبلات
أن تربّت عليهم
لكن زوجها كان يسكن أصابعها
:
حين تفتقد أمك تبحث عنها أكثر
،،
من يفهم بيتاً من غير عاطفة، من غير نافذة
يكون للبيت دائماً مصير سكانه
يثوى فى كل غرفة حظ صاحبها
،،
إلى أين تؤدى بك الأقدام التى فقدت الوجهة
إلى أين يؤدى الحظ بامرأة لا يمكن لأحد وقف العواء فى ذاكرتها
كم مرة حملتها أقدامها إلى البرد
كم مرة ضلت الطريق إلى نفسها
وإن لم تنسى طفولتها
تجذب الطفولة ذاكرتها كاملة كأنها مغناطيس
تجذبها لعبة التنطيط بالحبل
لكنها كانت تخاف أن تدوس على أوراق الشجر
تعتقد أنها قلوب
وأن الله لن يترك هذه القلوب مرمية على الأرض
سيعيدها حتماً إلى مكانها
:
ما الذى يبقى منا حين نفقد ذاكرتنا
ماذا يبقى من الشجرة إذا تعرت من الأوراق
:
ما زالت تتذكر أمها
فالزهايمر لا يمسح من القلب خفقانه
لا يحذف الأم
الحنان الذى لا هوادة فيه
:
مسكينة
ظلت تتكلم طوال حياتها بصوت زوجها
ولما أراد أن يستعيده منها أدخل يده فى فمها
حتى فارقت الحياة من غير صوت

اللوحة للفنان الفلسطيني عبدالهادي شلا

:
نعم لا ينسى الفأس عداوته للشجرة
لا ينسى الماء من يعكر صفوه
لا تنسى العورة من يهتك سترها
لا يغفر الرجل، المصاب بنفسه، للآخرين أنهم يعيشون بعده
لم تغفر حبيبتى لأمها أنها لم تحضنها
لم تغفر لأبيها قتل أمها، لأنها أصبحت خردة
أما أنا فلا أغفر أن أموت من غير ذاكرة
أريد أن أتذكر كيف متّ
كيف دفنت فى مقبرة مفتوحة
أرى منها الطيور
السحب
أو المصائر
كيف ينتهى الطريق بهذا الرجل الذى يتذكر زوجته باستمرار كأنها مدفونة فى رأسه
حتى إنه يتشمم ملابسها، التى أصبحت فجأة خشنة
أريد أن أعرف الطريقة التى سيُسكت بها كلبها الذى ينبح عليه ببطء
كأنه يتهجى حروف اسمه، أو يعلنه كقاتل
كيف سيُسكت زوجته بعد موتها وقد حفرت نفسها فى ذاكرته
النظرات التى كانت تصوبها إلى عينيه وهى تتسول منه حياتها
أريد أن أعرف الطريقة التى سيسكت بها الكوابيس
كيف يُسكت يده القاتلة
:
ذاكرة القاتل مشنقة
كل قتيل يتحول فيها إلى قاتل
إلى صيحة
جرس لا يكف عن الرنين خاصة حين يطبق عليه الليل
،،
الماضى لا بدّ أن ينبح
لهذا أريد مقبرة مفتوحة
ذاكرة بنافذة
تدخل لى منها أخبار الحياة .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى