أدب

الكتابة السيرية عند خالد اليوسف

الكاتب ناصر سالم الجاسم | السعودية

إنَّ فنَّ كتابةِ السيرةِ الذاتيةِ من أنواعِ الكتابةِ الأدبيةِ التي تُعنى بسردِ كاتبٍ لحياتِهِ أو جانبٍ منها بأسلوبٍ أدبي روائي، وهي تشبهُ إلى حدٍّ ما المذكراتِ أو اليومياتِ، وكانَ أولُ مَن استخدمَ كلمةَ «السيرةِ الذاتيةِ» هو ويليام تايلور عام1797م ( )، وإن كانتْ اعترافاتُ “أوغسطين” هي بحقٍّ أقدمَ سيرةٍ ذاتيةٍ وصلتْ إلينا.

وتنقسمُ السيرةُ الذاتيةُ إلى نوعين:
• سيرةٌ ذاتيةٌ
• وسيرةٌ غيريةٌ وهي “الشكلُ الآخرُ من أشكالِ السيرةِ، وفيهِ يتطوّعُ الراوي السيري الغيري لروايةِ حياةٍ إبداعيةٍ في مجال حيوي ومعرفي معيّن، لشخصيةٍ مُنتخبةٍ يعتقدُ بأهميتِها وضرورتِها وخطورتِها فضلاً عن صلاحيتِها للتقديم”( ).
ولعلَّ منْ أهمِّ الكتبِ السيريةِ السرديةِ في الأدبِ العربي:
• الخبزُ الحافي / محمد شكري
• سيرةُ المنتهى/ واسيني الأعرج
• امرأةُ الأرقِ/ ميرال الطحاوي
• رأيتُ رامَ الله/ مريد البرغوثي
• التجلياتُ/ جمال الغيطاني
• البئرُ الأولى/ جبرا إبراهيم جبرا
وقدْ عُرف الأستاذُ (خالد بن أحمد اليوسف) في المشهدِ الثقافي الأدبي السعودي والعربي منذُ أواخرِ السبعينياتِ الميلاديةِ من القرنِ الماضي كاتباً رائداً للقصةِ القصيرةِ وباحثاً ببــــــليوجرافياً جاداً، ولا أودُّ أنْ تكونَ الكتابةُ هنا كتابةً احتفائيةً أو احتفاليةً، بل كتابةً تشخيصيةً فقط، لأنَّ الكاتبَ قدْ أُشبعَ احتفاءً واحتفالاتٍ بطرحِهِ السردي، وقد بلغَ بذلكَ حدَّ الدرسِ الأكاديمي الجامعي في رسائلِ ماجستير ودكتوراه.
وفي الألفيةِ الثالثةِ أظهرَ خالدُ اليوسف نفسَهُ كروائيٍ له قُرّاءهُ والمعجبونَ بخطِّهِ الكتابي، ومِن ثَمّ واصلَ هذا التعددَ في المواهبِ الأدبيةِ وقدَّمَ للمكتبةِ العربيةِ سيرةً ثقافيةً عَنونَها بـ “نقاءِ الطينِ الأبيض”.
وحينَ نفحصُ العنوانَ نجدُ أنهُ جملةٌ مركبةٌ من ثلاثِ مفرداتٍ، فـ (نقاءُ) تحيلُ بالقارئِ منذُ البدايةِ بأنْ يتوقعَ بأنَّ المسرودَ لهُ أو المتنَ السيري كلَّهُ سيكونُ مادةً حكائيةً نقيةً من المُحرّمِ، ويعضدُ هذا التوقعَ كلمةُ الطينِ المنعوتِ بالبياضِ، ومن خصائصِ الطينِ أنه يقبلُ التشكلَ بالأيدي، وأنه يشتركُ في تكوينِهِ مجموعةٌ من الأفرادِ، وأنه دافئٌ شتاءً وباردٌ صيفاً، وأنه يحققُ في النهايةِ معنى البناءِ للفردِ وللوطنِ، وهذا ما حدثَ، فقد بَنى الأديبُ خالدُ اليوسف سيرةً ثقافيةً لهُ واشتركَ أصدقاؤهُ معهُ في تكوينِ البناءِ وصارَ البناءُ الثقافيُ الأدبيُ كلُّهُ مُسجلاً باسمِ وطنٍ هو المملكةُ العربيةُ السعوديةُ، وقد جاءَ السردُ دافئاً أحياناً قليلةً حيثُ نالَ المشاعرَ والعواطفَ الإنسانيةَ، وبارداً مراتٍ عدةٍ حينَ تناولَ سردَ القراراتِ الرسميةِ والتكليفاتِ، ومارسَ الكاتبُ نوعاً من الذكاءِ أو أبدى حذراً في نعتِ سيرتِهِ، فوَسمَها بأنها ثقافيةٌ ولمْ يقلْ ذاتيةً أو أدبيةً، لأنَّ الثقافةَ- حسبَ وجهةِ نظرِهِ فيما يبدو ووجهةِ نظرِ الكثيرينَ- مفهومٌ أوسعُ من الأدبِ وأنَّهُ جزءٌ منها، فنقاءُ الطينِ الأبيضِ سيرةٌ ذاتُ ثلاثةِ أبعادٍ:
• البعدُ الأولُ: خالدُ اليوسف وهو عنصرٌ أساسيٌ محوريٌ.
• البعدُ الثاني: أصدقاءُ خالدِ اليوسف من الأدباءِ والمسؤولينَ وهمْ ثانويون.
• البعدُ الثالثُ: الوطنُ ويمثّلُهُ في السيرةِ المكانُ والزمانُ السعوديان، وأمكنةُ وأزمنةُ الكتابةِ والإنجازاتِ الشخصيةِ والحكومية.
ويُفهمُ من هذهِ الأبعادِ أنَّ بواعثَ كتابةِ هذهِ السيرةِ لا تعدو عن:
– تعلقِّ الكاتبِ خالدِ اليوسف الشديدِ بعائلتِهِ وحبِّهِ المؤثّرِ لهم (الأبُ والأمُ والأخوةُ وأولادُ العمومةِ).
– توثيقِ الكاتبِ خالدِ اليوسف لمنجزاتِهِ الشخصيةِ الأدبيةِ وغيرِ الأدبيةِ وتدوينِهِ لحركتِهِ في الزمانِ والمكانِ السعوديين، والخروجِ منهما قليلاً نحوَ المكانِ والزمانِ العربيين (البحرين- الكويت- الإمارات- القاهرة- تونس- اليمن).
– عشقِ الكاتبِ خالدِ اليوسف لوطنِهِ وتحديداً للمدينتينِ الأثيرتينِ على قلبِهِ الرياضُ والطائفُ.
– وفاءِ الكاتبِ خالدِ اليوسف لأصدقائهِ الأدباءِ خاصة، ولغيرِ الأدباءِ من أساتذتِهِ ومن أصحابِ السُلطِ التربويةِ والثقافيةِ والإداريةِ.
– استمرارِ الكاتبِ خالدِ اليوسف في طرقِ وتجربةِ أنواعٍ أدبيةٍ أخرى.
ونتيجةً لهذهِ البواعثِ تأثرتْ لغةُ الكتابةِ السيريةِ في نقاءِ الطينِ الأبيضِ وامتازتْ بالآتي:
تأثيرُ الأمكنةِ- أو ما سمّاها غاستون باشلار بـ “مقصوراتِ اللاوعي”( )- وقدْ تَمظهرَ هذا التأثيرُ في كاملِ السيرةِ، فالمكانُ كانَ هوَ المحرضُ على الكتابةِ بكلِّ ما فيهِ من طبيعةٍ وأشخاصٍ وذكرياتٍ، بدءاً من الرياضِ (البيت) مروراً بالطائفِ المأنوسِ (الذي يحملُ معنى البيتِ أيضاً) فكلُّ الأمكنةِ المأهولةِ حقاً تحملُ جوهرَ فكرةِ البيتِ؛ ذلكَ أنَّ الخيالَ يعملُ في هذا الاتجاهِ أينما لقيَ الإنسانُ مكاناً يحملُ أقلَّ صفاتِ المأوى( )، فإذا كانَ شارعُ الوزيرِ بالرياضِ يحملُ ذكرى أولِ صورةٍ “بالغترةِ” في الطفولةِ، فإنَّ الطائفَ يحملُ ذكرى أولى الأمسياتِ القصصيةِ، كما أنَّ الأمكنةَ ارتبطتْ بشخوصٍ ولقاءاتٍ عديدةٍ كانَ لها التأثيرُ العاطفيُ الأكبرُ في نفسِ كاتبِ السيرةِ، وهذا أحدُ الأدوارِ التي اضطلعَ بها المكانُ في السيرةِ، فإذا اعتبرنا أنَّ المكانَ يشكّلُ خشبةً شبهَ فارغةٍ، فهو بالضرورةِ يستدعي شخصيةً ما لتحتلَّهُ( )، وقدْ تتالتْ الشخصياتُ في السيرةِ تباعاً فوقَ تلكَ الخشبةِ بترتيبٍ زمنيٍ مُلفتٍ، فَسمّى الكاتبُ بعضَها بشخصياتِ المرحلةِ ورقَّمَها بتسلسلٍ زمني أشبهُ بالتأريخِ المنظّمِ المتوالي.
بلْ إنَّ بعضَ الأمكنةِ في السيرةِ ارتبطتْ بأمكنةٍ أخرى أصغرَ منها، كالنوادي والجمعياتِ الثقافيةِ والشوارعِ والمتنزهاتِ، فإذا حضرَ المكانُ (المدينةُ) حضرتْ معَهُ أمكنةٌ أخرى مصغرةٌ وذكرياتٌ ولقاءاتٌ هنا وهناك، ذلكَ أنَّ من سماتِ المكانِ- كما قال باشلار- أنها تبلغُ حدّاً من “البساطةِ ومن التجذّرِ العميقِ في اللاوعي يجعلُها تُستعادُ بمجردِ ذكرِها، أكثرَ مما تُستعادُ من خلالِ الوصفِ الدقيقِ لها”( )، لذلكَ فقدْ شاهدنا إسقاطاتٍ عاطفيةً على الأمكنةِ والأشخاصِ وارتباطِ الكاتبِ بهم، ولا يخفى أنَّ “إسقاطَ الحالةِ الفكريةِ والنفسيةِ للشخصياتِ على المحيطِ الذي يُوجدونَ فيهِ يجعلُ للمكانِ دلالةً تفوقُ دورَهُ المألوفَ كديكورٍ أو كوسطٍ يُؤطرُ الأحداثَ، إنهُ يتحولُ في هذهِ الحالةِ إلى مُحاورٍ حقيقيٍ ويقتحمُ عالمَ السردِ مُحرراً نفسَه هكذا من أغلالِ الوصف”( ).
ولعلَ خالدَ اليوسف قدْ حاولَ إعادةَ خلقِ المكانِ في سردِ ذكرياتِهِ عن الطائفِ التي أحبَّها وأحبَّ تفاصيلَها وطبيعتَها، فهي تحملُ لهُ ذكرياتِ أولِ غرامِهِ بالتصويرِ بكاميرا الفيديو مع العائلةِ، فقرّرَ من خلالِ فعلِ الصورةِ المجسدةِ بالكلماتِ إعادةَ رسمِ تلكَ المشاهدِ في مخيلتِهِ، مُحاولاً “تأكيدَ فاعليةِ المسافةِ لزمنٍ غيرِ الزمنِ الذي رُسمتْ فيه”( ).
كما أنه من الممكنِ القولُ إنَّ خالدَ اليوسف- من خلالِ سيرتِهِ الثقافيةِ- قد وصلَ إلى الحدِّ الذي شاركَ فيه القارئَ ذكرياتِهِ ليستحثَّه على استحضارِ ذكرياتِهِ الخاصةِ هو أيضاً، فَقِيمُ الألفةِ تمتلكُ جاذبيةً تجعلُ القارئَ يتوقفُ عن قراءةِ حُجرتِكَ: أنه يرى حُجرتَه مرةً أخرى، …. ليصبحَ بيتُ الذكرياتِ معقداً سايكولوجياً”( )، فالطفولةُ في سيرةِ خالدٍ على الرغمِ من صرامةِ التربيةِ وعُمقِ تكريسِ القيمِ بقوةٍ ضاغطةٍ إلا أنَّها حملتْ لنا جانباً- وإن كان يسيراً- من حنينِ الكاتبِ لسردِ مُتعِهِ الصغيرةِ وهواياتِهِ (كجمعِ الطوابعِ مثلاً).
وبالرغمِ من أن المكانَ المتناهي في الكِبرِ- كما سمَّاه باشلار- قد ظهرَ بشكلٍ أقلَّ من الأماكنِ المغلقةِ في السيرةِ، إلا أنَّ المكانَ الممتدَ في مدينةِ صنعاءَ قدْ امتدَّ في سيرةِ الكاتبِ كذاكرةٍ تاريخيةٍ، فكانَ متناهياً في الكِبرِ الزمني أكثرَ منهُ مكانياً، كما أن البيئةَ الطبيعيةَ في الطائفِ قد شكلتْ إلى حدٍّ ما “حركةَ الإنسانِ الساكنِ فكانتْ إحدى الخصائصِ الديناميةِ لحلمِ اليقظةِ الساكنِ”( ).
أما اللغةُ فلمْ تكنْ فنيةً خالصةً أو ذاتَ قيمٍ بلاغيةٍ أو مجازيةٍ واضحةٍ ومحددة، فقد جاءتْ في مجملِها سهلةً وبسيطةً، لغةَ إخبارٍ وإعلامٍ وحكيٍ يكونُ مُشوقاً أحياناً وأحياناً لا يكونُ، وقد تمثَّلَ في توالي عددٍ من الأفعالَ وسردٍ موجزٍ للأحداثَ (كحادثةِ مربي الحَمَامِ الشاذِّ، وحادثةِ المرأةِ البغي المستترةِ) ووصفٍ تفصيليٍ للأمكنةِ (الرياضِ القديمةِ أو الرياضِ الأولى) وذكرٍ دقيقٍ للتواريخِ وبيانٍ لأثرِ البيئةِ وأثرِ السُلطِ المجتمعيةِ والدينيةِ (سلطةُ الأبِ المتدينِ والمهيبِ والمحبوبِ في الوقتِ ذاتِهِ) على الجانبِ الإبداعي في شخصيةِ كاتبِ السيرةِ، وإن كنتُ أرى أنه كانَ بإمكانِ الكاتبِ الإفادةُ من حادثةِ مربي الحمامِ والبغي المستترةِ في اختيارِها مادةً حَدثيةً وإنسانيةً لقصصٍ قصيرةٍ مستقلة.
وقد خَلَتْ السيرةُ من حدثٍ مركزي يقودُ السردَ كلَّه أو يوجِّهُ مسارَه أو يحددُ نمطَ لغتِهِ، ولم تنتظمْ في بوحٍ متصلٍ يشدُّ القارئَ لها منذُ البدايةِ حتى النهايةِ، بوحٌ يخضعُ لمعاناةٍ كبيرةٍ وبيّنةٍ كمعاناةِ التشردِ، أو سردِ الفعلِ الجنسي كما حدثَ مثلاً عندَ محمد شكري في الخبِز الحافي أو زمنِ الأخطاءِ، كانَ البوحُ عندَ خالدِ اليوسف فعلاً متقطعاً وشحيحاً، وعن موضوعاتٍ متنوعةٍ وطاهرةٍ ومشروعةٍ جداً، ونستطيعُ أن نقولَ إنه مارسَهُ على خجلٍ واستحياءٍ في سردٍ راكضٍ لاهثٍ يتخللُه التعمدُ في الحذفِ أو التجاوزِ- قصداً- عن ذكرِ بعضِ الأشياءِ المعيبةِ اجتماعياً مع إحساسٍ يلحظُ بوجودِ بعضِ القفزاتِ؛ فالشاعرُ السوريُ الكبيرُ عبدُ الكريمِ الناعمِ- مثلاً- ساءتْ صحتُهُ في صنعاءَ حينَ شاركَ في مهرجانِ الأدبِ اليمنيِ الرابعِ عامَ 2005م بسببِ مرضِ القلبِ وأُدخلَ وحدةَ العنايةِ المركزةِ عندَ طبيبٍ يمنيٍ شهيرٍ من عائلةِ الحدادِ، في حينِ أنَّ كاتبَ السيرةِ لم يذكرْ سوى أنه تعبَ بسببِ المرتفعاتِ الجبليةِ ونقصِ الأكسجين، وبسببِ هذه القفزاتِ والتجاوزاتِ عن رصدِ كلِّ التفاصيلِ أو كل شيءٍ يحدثُ لهُ أو لأصدقائِهِ فقد قدّمَ الكاتبُ سيرتَه منجّمةً بعناوينَ فرعيةٍ ولا يمكنُ النظرُ إليها كالنسيجِ الواحدِ.
وقد أثّرَ سلباً الحضورُ الوافرُ للرجالِ الأعلامِ من حريةِ التعبيرِ فلم يُسردْ عنهم سوى الفعلُ الإيجابيُ في شخصياتِهم، وغابتْ تفاصيلُ كثيرةٌ أثناءَ اللقاءِ بهم، ربما رأى الكاتبُ أنها ليستْ ذاتَ ضرورةٍ فنيةٍ.
مثلما ظهرتْ شخصيةُ الفتاةِ التي تراقبُ في الحي شخصيةَ الأديبِ اليافعِ وكأنها تعيشُ في الحديقةِ الخلفيةِ للمنزلِ، ولم تتصدرْ واجهةَ الأحداثِ منذُ البدايةِ حتى النهايةِ فهي تظهرُ وتغيبُ وتظهرُ وتغيبُ، وكذلك ظهورُ شخصيةِ الأمِ على أنها مثلُ بقيةِ الأمهاتِ وليستْ أماً استثنائيةً صَنعتْ الشخصيةَ الإبداعيةَ لكاتبِ السيرةِ، فهي لم تتجاوزْ دورَ أن تكونَ معلمةَ حياةٍ أو معلمةَ خلقٍ وتربيةٍ فاضلةٍ.
وبما أننا في طورِ الحديثِ عن التربيةِ الأخلاقيةِ العاليةِ للأمِ الفاضلةِ رحمَها الله، وللضبطِ المنهجي الصارمِ الممارسِ من قبلِ الأبِ الراحلِ غفرَ اللهُ له، على حديثِ وسلوكِ صاحبِ السيرةِ الثقافيةِ الأستاذِ خالدِ اليوسف، فإن اللفظَ الشعبيَ الجسورَ المحملَ بالدلالاتِ الساخنةِ الطازجةِ لم يتحركْ في السيرةِ كثعبانٍ يلدغُ، ونحنُ ندركُ ما للفظةِ المحكيةِ (البذيئةِ أو التي يمجّها الذوقُ العامُ) من علاقةٍ وثيقةٍ بالشعورِ الإنساني، وبردّةِ الفعلِ من قِبلِ الآخرِ، وبالمخزونِ الجمالي الذي تدّخرهُ أثناءَ الحكي للأحداثِ، فكانتْ سيرةُ نقاءِ الطينِ الأبيضِ سيرةً طهرانيةً مهذبةً بيضاءَ نقيةً كثوبِ إحرامِ حاج، رغمَ أننا نجدُ بعضَ كُتابِ السيرِ الذاتيةِ والغيريةِ يُولونَ اهتماماً بثَبْتِ الألفاظِ البذيئةِ في المتنِ السيري، سواءً التي تصدرُ من فمِ صاحبِ السيرةِ أو من أفواهِ غيرِهِ ممن يتعالقُ معهم.
وعموماً فإنَّ كتابةَ خالدِ اليوسف لهذه السيرةِ الثقافيةِ التي تناولتْ زمناً ومكاناً كانا في الأصلِ فقيرَينِ من حيثُ المحتوى المُلهمِ المغذّي أو الكافي لكتابةِ سيرةٍ ذاتيةٍ، فهي تُعدّ مغامرةً إبداعيةً، أو خَلقاً من عدمٍ؛ فمناخُ تلكَ الأيامِ أو السنواتِ كلِها يُعدّ رتيباً ومملاً لتشابههِ وخلوّهِ مما يُبهجُ، لذلك يبدو حدثُ مشاهدةِ كاتبِ السيرةِ للسينما لأولِ مرةٍ كحدثٍ كبيرٍ فيه الكثيرُ من المتعةِ الفنيةِ.
ويبدو لي أن فنّ السيرةِ الذاتيةِ حينَ يجيءُ ذكرُ المكانِ سيُكتفى بالاسمِ مع وصفٍ يسيرٍ جداً، لترتفعَ عنايةُ الكاتبِ بما يجري في المكانِ، فهو الذي يصنعُ الخصائصَ الفنيةَ للسيرةِ، والذي حدثَ مع خالدِ اليوسف أن الأمكنةَ قد مارستْ شاعريتَها وجاذبيتَها وسحرَها على قلمِهِ فساحَ واصفاً لها وصفاً أكثرَ منه، وعني بهِ على حسابِ الشخصيةِ والحدثِ (مثلَ وصفِ دخنة وشارعي الثميري والوزير)، لذلكَ لم ينفتحْ الحكيُ كثيراً في أمكنةٍ كثيرةٍ، وبدتْ صماءَ.
وباتَ جلياً أن الكاتبَ خالدَ اليوسف يمتلكُ ذاكرةً تصويريةً تحفظُ اللقطاتِ وتعرضُها بشكلٍ جماليٍ يحققُ الاندهاشَ، وقد تتطورُ ذاكرتُهُ أحياناً إلى أن تكونَ سينمائيةً تجعلُنا نشاهدُ مقاطعَ حياتيةً مُطوّلةً بلذةٍ بصريةٍ وسمعيةٍ في آنٍ واحدٍ، لذلكَ كانَ من الأجدرِ أن يُقدّمَ الكاتبُ سيرتَيهِ الذاتيةَ والثقافيةَ منفصلتين كل سيرةٍ في كتابٍ مستقل..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ) انظر الموسوعة العالمية ويكيبيديا
( ) المرجع السابق
( ) غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، بيروت: المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1984م. ص39
) انظر غاستون باشلار، جماليات المكان ص 36
( ) انظر محمد مصطفى علي حسانين، استعادة المكان (دراسة في آليات السرد والتأويل)، الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2004، جائزة الشارقة للإبداع الأدبي، ص27- 28.
( ) غاستون باشلار، جماليات المكان ص42
( ) حميد لحمداني، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1991م، ص 71
( ) ياسين النصير، الرواية والمكان، الموسوعة الصغيرة (عدد 195) بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1986م، ص 19
)) غاستون باشلار، جماليات المكان، ص43
) انظر غاستون باشلار، جماليات المكان، “المتناهي في الكبر” ص171

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى