طقوس الجنازة في الوعي
د. خضر محجز | غزة – فلسطين
استشهد ابني في المواحهة مع العدو. فكان مما قالته لزوجتي أم شهيد لم يقدر لها أن تدفن جثة ابنها، التي ظلت أسيرة لدى قاتليه:
ــ احمدي الله، فلديك على الأقل قبر تذرفين الدمع فوقه:
في مسرحية (أنتيغونا) لسوفوكليس، ينصح العراف الأعمى (تيريزياس) رئيس مدينة طيبة (كريون) بالتراجع عن إغضاب السماء، والتراجع عن قراره بمنع دفن جثة فولونيقوس بن أوديب، فيقول:
ــ فكر في هذا يا ولدي. إن الغلط شائع بين الفانين جميعاً، لكن متى ما وقع الخطأ، فإنه لا يصبح أحمق وبائساً من عرف كيف يبرأ من الداء الذي أصابه واقتنع. أما الإصرار على الخطأ فحماقة. اذهب، تنازل للميت، ولا تحاول أن تصيب كائناً لم يعد موجوداً. أمن البطولة أن تقتل من هو ميت مرةً ثانيةً.
وكان الميت فولونيقوس قد قاد جيوشاً أجنبية لغزو مدينته، مطالباً بالعرش، الذي تولاه أخوه ثيوكل. وعلى أبواب المدينة تصارع الأخوان بالسيوف والحراب، فاختلفا ضربتين فقتل كل منهما الآخر، وآب العرش إلى خالهما (كريون).
لقد أصدر كريون أمرين مختلفين بحق جثتي الأخوين الصريعين: الأول يقضي بتكريم جثة ثيوكل بطلاً شهيداً ودفنه حسب المراسم، والثاني يمنع دفن جثة فولونيقوس، ويقضي بتركها للطيور والحيوانات تأكلها وتدنسها.
ولأن آلهة العالم السفلى تطالب بحقها في الجثة، ولأن روح القتيل تظل هائمة لا تلج عالم الموتى دون مراسم الدفن، ولأن (أنتيغونا) بنت أوديب تشعر بواجبها نحو أخويها كليهما، ولا تتنكر لرابطة الدم، التي تلعن الآلهةُ من يتنكر لها، نراها تقرر أن تدفن جثة أخيها فولونيقوس، خلافاً لأمر الرئيس كريون، معرضة حياتها بذلك للموت.
ويرى هيغل أننا في مأساة (أنتيغونا) لسنا بإزاء ضحيتين فقط، بل وأيضاً مذنبين: أحدهما أنكر حقوق الدولة، والآخر حقوقَ الدم. والأول هو أنتيغونا، والثاني هو كريون.
وفي هذا الاتجاه يقول بك (Beckh): «في مواجهة قوتين مبجلتين، هما دين الأسرة وقانون الإنسان، يوجد مذنبان عوقبا عقاباً عادلاً وهما: كريون الذي جر عناده القاسي إلى هلاك ابنه هايمون، وزوجته يوروديس؛ ثم أنتيغونا التي وإن كانت أقل ذنباً من خصمها كريون، فإنها مع ذلك تستحق اللوم، لأنها نسيت التحوط الذي يمليه جنسها (بوصفها امرأة) ولأنها انتهكت قوانين المدينة. إنها ــ كما يقول الكورس ــ الابنة الحقة لأوديب الجبار. لقد أضلها الوجدانُ ضلالاً مهلكاً، فاصطدمت بالعرش المنصوب للعدالة».
الجوهري في كل ما قدمناه غرام البشر بأداء حقوق الميت. فمهما كان الميت فهو في النهاية ــ كما قال تيريزياس ــ لم يعد موجوداً وليس من البطولة أن يقتل مرةً ثانيةً.
من هنا ندرك عظمة أنتيغونا، الفتاة التقية ثلاث مرات: الأولى بإطاعتها أمر السماء المطالب بدفن الجثة، والثانية بإطاعة أمر السماء كذلك بأداء حقوق الأخ الميت، والثالثة بإطاعتها نداء الدم والطبيعة، حين دفنت أخاها لترتاح روحه من التشرد.
إنها ابنة أوديب حقاً! تختار مصيرها بقوة، وتدفع ثمن اختيارها بإصرار. كل ذلك وهي تقية كالمطر.
لقد عاشت أنيغونا في أعماق وعي البشر، لا لأنها مجرد تراجيديا. فليس كل الناس يشاهد التراجيديات، ولا حتى كل الغربيين يشاهدون تراجيديات سوفوكليس، بل لأن التراجيديا بحد ذاتها تمتح من مشاعر البشر، أو من عمق وعيهم الجمعي الذي لا يعرفون في الغالب مصادره.
من هنا فلم يكن غريباً أن تحتفل الشعوب احتفالا مهيبا ومقدسا بإجراء طقوس جنائز الأبناء، فتقدم من بهاء الطقوس ما يناسب عظمة الميت.
تذكرون جميعا جنازة ناصر ولا شك رحمه الله
فلنر الآن سوياً كيف احتفلت فرنسا بجنازة بطلها نابليون، بعد سنوات من موته منفياً.
يقول الزوجان ديورانت:
عهد ملك فرنسا إلى ابنه فرانسوا بالتوجه إلى سانت هيلانة، ليعيد رفات نابليون. وفي 7 يوليو سنة 1840 أبحر الأمير من طولون، وبصحبته الجنرالات؛ بيرتيران، وجورجو، وكونت دي لاكاس ومارشان خادم نابليون الأثير لديه ــ فهؤلاء هم الذين سيقررن أنَّ الجثّة لنابليون ــ فوصلوا سانت هيلانة في 8 أكتوبر. وبعد كثير من الإجراءات الرسمية، رأوا الجثة بعد إخراجها من القبر، وتعرفوا عليها. وفي 30 نوفمبر وصلوا بها إلى شيربورج. وهناك بدأت أطول جنازة في التاريخ: نقول أطول جنازة حقيقة مؤكَّدة. لقد نُقلت الجثة إلى الباخرة نورماندي، التي نقلتها بدورها إلى فال دي لا هاي، على السين إلى الأدنى من الرون؛ ثم نُقلت إلى سفينة نهرية أقيم عليها معبد، يحرسها في أركانها الأربعة كل من بيرتران، وجورجو، ولاكاس، ومارشان. وتحت هذا المعبد كان التابوت الذي يضم الرفات مُطلاً على نهر السين. وراحت السفينة تتوقف أمام كل مدينة كبرى، للاحتفاء على الشاطىء. وعند كوربفوّى ــ شمال باريس بأربعة أميال ــ نُقل التابوت إلى عربة جنائزية مزيّنة، يحفها موكب من الجنود والبحارة، وذوي المكانة، ليمر عبر نيللي. وتحت قوس النصر، وعلى طول الإليزيه، وكانت الحشود فرحة تصفّق.
وفي وقت متأخر من هذا اليوم اللاذعة برودته، وصل الجثمان أخيرا إلى مكانه، كنيسة مقابر ضحايا الحرب ذات القبة الرائعة. وغصّ صحن الكنيسة ومماشيها بآلاف المشاهدين الصامتين، بينما يحمل أربعة وعشرون بحاراً التابوت الثقيل إلى مذبح الكنيسة، حيث خاطب الأمير دي جونفيل أباه الملك قائلا:
ــ سيدي، لقد أحضرت لك جثمان إمبراطور فرنسا.
فأجاب الملك لويس فيليب:
ــ إنني أستقبله باسم فرنسا.
ووضع بيرتران سيف نابليون فوق التابوت، وأضاف جورجو قبّعة الإمبراطور، وأنشدت الجموع القداس على روحه، بمصاحبة موسيقا موزارت. وأخيرا أصبح رفات الإمبراطور حيث كان يود أن يكون، في قلب باريس وعلى ضفاف نهر السّين.
المصادر:
1ـ تراجيديات سوفوكليس. ترجمة وتقديم عبد الرحمن بدوي
2ـ الزوجان ديورانت. قصة الحضارة. ترجمة عبد الرحمن عبد الله آل الشيخ.