غربة روح.. رواية تكتبها: أليسار عمران (2)

أليسار عمران| سورية

(4/2)(بلجيكا)

أعدّت سارة أمّ مراد أطباق الطّعام الشهيّة التي تحملُ نفس المطبخ البيروتي حيثُ ورق العنبِ والكبّة الشهيّة باللحم والصّنوبرِ والتبّولة الفاخرةِ ،كان داني يحرصُ على الصّيام لتخلو معدتهِ من بقايا الأكلِ المعلبِ الجاهزة في الفريزر فالغنى والترفُ أورثَ والدته الكسلَ فنرجسيتها لم تمنحها التخلّي عن كبرياءِ الأظافر الجميلةِ والشعورِ بالأنفةِ والعظمةِ والأناقةِ المترفةِ، لحظاتها المضنية كانت حين تعكسُ المرآة تجاعيدها المريبة
لم تعد تنفعُ م جلسات البوتكس والمواد المالئة والخيوط الغالية الثمن في جمعِ ماتشتّتَ من جمالها

على عكسِ سارة المتعبةِ بهمومها وخشونةِ أصابعها أمام كلماتِ مديح زوجها الفلسطيني المسالم والذي يقدّس أرز لبنان الذي وهبه قلبها معمّداً إلى الأبدِ بالمحبة

لقد سكنا بمنطقة الزّبداني بسورية زمناً طويلاً قبل الحربِ فقد تجدهم ممزوجين بنكهة لبنان وفلسطين ودمشق يملأُ الدفءُ حياتهم ويعكر صفوها مشاكلُ الأبناءِ وارتباطهم الغيرِ مستقرٍّ

والله ياداني معزتك من معزة ابني مرادٍ كم أشتهي احتضانك وكم أتمنى لوكنت زوجاً لابنتي هناء بدلاً عن ذاك الشركسي المقت الذي تزوجها ليستولي على كل المال الذي حوله زوجي باسمها ليحصلُ على نصفه
إنها أحد مساوىء الزواج المدني التي يجب أن نقرّ بها كمجتمعٍ أوربيّ

ما أتعسني ياداني على نقولا ولدي الطبيب الذي تركته زوجته البلجيكية ورحلت لينفطر قلبه على جرجس وجوني صغيريهِ اليافعينِ دعني أدللكَ ياابني الصغير قبل أن تنتهي عصور المرأة التي تغدقُ المطبخُ بسحر أصابعها لإعداد وجبات الطعام الشهيّ الذي يحمل روح الشرق الأصيل ودفء الأمومة الطيبةِ
هذا القانون لم يحولكم إلا لمجرّدِ كلابٍ لا تتجرّأُ حتى على النباحِ
أمام سطوةِ أنثى تمتلكُ كلّ حقوقها في معارضةِ وجودكم
يضحك الجميعُ على أصواتِ ثرثرةِ سارة ويصغون إليها بمودة
لاتوصف

كمن يملأ روحه بالدفء ويعتدلُ في جلسةٍ مقدسةٍ بلمّة الأهل والأصدقاء مضى الوقتُ سريعاً
ودّع داني الجميع ليجهز نفسه لقضاء رحلتهِ السنوية على متنِ الباخرة موعد إجازته التي يقضيها في حصادِ الصدف المثيرةِ

على متنِ الباخرةِ العابرة بين بلجيكا والنّرويج وألمانيا وهولندا مروراً ببحرِ البلطيقِ عبر (سكاغيراك)
تجمّع الحشودُ من جميع أنحاء العالمِ حولَ خصر ساندرا الرّاقصة الهندية الأصلِ شقراء بضّة نحيلةُ الخصرِ وشعرها الغجري كشلالاتِ نياغارا ترتمي على جذعها الطّويل
خدودها الناعمةٌ وشامتها التي تغطّ كفراشةٍعلى شفتها السّفلى ،لقد اعتنى الله بكرسيّي خدودها وذقنها المرسومُ كأيقونةِ سحرٍ

ترقصُ وتغني كما لوأنها تؤدي طقسَ صلاتها الأوحد ،تجذبُ الجميعَ يصفقّونَ ويسعدونَ لكأنّها نايٌ ضاقَ بجلدهِ ففتحَ بصدره أزراراً للنّور

كانَ داني يتساءلُ عن نجومَ السّحر التي تطوقُ عنقها العاجي
بارعةٌ بالرّقصِ والغناءِ كشمسٍ وإن هدأت تجمّعت كضبابٍ لايسمح للعيونِ بالعبورِ
كانت رحلته على مدار أسبوعٍ كافية بأن يحاولَ الاقترابَ والتحدثَ إليها

أيجوزُ أن نصبحَ عاشقين ساندرا!باغتها بسؤالهِ كلّ مافيكِ يملأ روحي بالأسئلة

تجمّعت حزمةٌ واحدةٌ من الأجوبة الذكيّةِ في مقلتيها دفعةً واحدةً
ثمّ همست في أذنه أنتَ رجلٌ عاشقٌ ياداني
والقلبُ يوهبُ مرّةً واحدةً دعكَ من الشّبهِ الذي اصطدتهُ في حضوري الضبابي
تذكر…القلبُ يوهبُ مرة واحدةً فقط ومضتْ دون أن تلتفت

عادت إلى ذاكرتهِ صورةُ الجديلةِ التي تركتها سوزي معلّقة كجرسٍ يؤذنُ له بالعودةِ إلى زمن ما
إلى فصلٍ ورديّ كأزرار معطفها التي مازال يحتفظ بأحدها

القلبُ يوهبُ مرّةً واحدةً وما الصّدفُ إلا بعضَ حروفٍ موسيقية لم تكتمل في نوتةِ اللحنِ الأخير

(5/2)

إنّه اتّصالٌ هاتفيّ من إيفا صديقةُ داني المقربة إنّهما على صداقةٍ دائمة وتحدد موعداً لزيارته شهراً كاملاً في كلّ سنةٍ يجمعهما الحوارُ المستفيضُ يحدثُ أن يتشاركا غرفةً واحدةً وربما سريراً واحداً ويستلمانِ في بعضِ الأحيانِ لتجاذبهما ويحاولانِ أن يعيشانِ كزوجينِ

تعدّ له القهوة ويهمّ بتحضير الفطور وقد يتشاركان كأساً من الفودكا حين يفضفضانِ بأسرارهما لبعضٍ

لكم تمنى أن تكون زوجته ولكنها فتاةٌ مشغولةٌ بمتابعةِ دراستها وتحصيلها العلمي فهي تسعى إلى حضورٍ علميّ يليقُ بها
والألتزاماتُ بالزواجِ تعطلُ مسيرتها

لقد قالت شيئاً رهيباً ،داني أنا حامل منك
لقد تسرّبَت رعشةُ الخبرِ إلى مفاصلهِ وعقلهُ يحاولُ تكذيب تحاليل المختبرات(عقيم)
ثمّ يقول :الله قادرٌ على كلّ شيءٍ،ينقطعُ الاتصالُ فجأةً وتصلُ رسالة من إيفا مرّةً اخرى ( عزيزي داني أنا حامل منك)

هذا الخبرُ سيغيّر حياتهُ هذه المرة إلى الأبد ستفرج والدته التي كانت ترثيه كأنه ميت وسيبتهج محمود سيلغي الحي الصغير
الذي تسكنه شقيقتاه هيا وتيا وسيصاب أصهرته بالمغصِ لن يستولوا على ماتبقى من أملاكِ هذا الرجل العقيم
الجشعُ الذي جعلهم يتهمونهُ بأنّه (ديّوث)لأنه لوقتلَ زوجته حين رآها في واقعةِ الخيانةِ لكان القانونُ أعدمه وبقي إرثهُ لهم

ليتهُ عاشَ تفاصيل قربة الخال مع مينيسّا ابنة أخته هيا
فهي تتصلُ به دوماً وتشتاقُ إليهِ لكن أهلها يمنعونها من زيارتهِ
لقد حضرَ جميع كورساتِ (سلوك الزوج نحو زيجةٍ صالحةٍ)
سلوم الأبِ مع الطفلِ ومع الشابّ المراهقِ
دخلَ دور العناية بالعجزةِ وتبرع بخدمةِ عجوزٍ تحتضر تعلم كيفَ يغني لها ويلامسُ شعرها بهدوءٍ لتواجه آخر لحظاتِ تسليمِ روحها لباريها ويتذكرها حين كانت تستيقظ لتلعنَ السّماءِ التي تأخرت عن خطف روحها وتعود للنومِ
لقد أعدّ نفسهُ ليكونَ إنساناً وزوجاً وأباً فكافأته الحياة بصفعةٍ وألقتهُ على رصيفها

مضت أشهرٌ عديدةٌ وإيفا لاترد على الهاتفِ مما اضطرّه إلى السفر إلى بلجيكا حيثُ تقيم لمواجهة الحقيقة

فالحياة أن نكون أولانكون

(6/3)

لطالما بعثرته رسالة إيفا وها هو يقفُ بمواجهةِ ذقنها عينهُ بعينها
يمسكُ ذراعيها، ويهزّها بعنفٍ يستطلعُ الخبرَ اليقينَ منها هيّا يا إيفا اعترفي ماقصة التحاليل والنتيجة!؟ إيجابي !؟؟
لم تقفلين خطّكِ !؟هل تريدين الاحتفاظ بالطفل لك وحدكِ !!؟ أجيبي !!

تطرقُ إيفا رأسها خجلاً(الكذبُ هنا حرامٌ) تظهرُ عليها علاماتُ الارتباكِ والمفاجأة آسفة، آسفة ياداني كنتُ أكذبُ عليكَ لأجعلكَ تشعر ببعضِ السعادة وبصمتٍ تفكر في بعض الأحيانِ يقودنا التعاطف الانسانيّ لأجل من نحبّ إلى الكذبِ هزّ رأسهُ وقبضَ على أصابعها في محاولةِ للملمةِ ماتبعثر من أحلامهُ اخذ نفساً عميقاً طأطأ أحلامه مستسلماً ومن ثمّ رافقها إلى دارها لقضاءِ وقتٍ متقطعٍ من الحواراتِ الشفافة والفضفضة حول مجرياتِ حياتهم

لقد عاد إلى منزلهِ في استكهولم صعد إلى غرفتهِ دون أن ينظرَ في عينيّ أمّهِ التي عاشتْ لتنتظرَ سماع خبر حضور طفله إلى هذا العالم محتضناً نفسه كسفينةٍ نجت من الطوفانِ الأخير بعد أن تكسرت مجاذيفها لقد نام لساعاتٍ طويلةٍ واستيقظَ على صوت الجرس وإذ بأسامة يدخلُ إليهِ كشظيةٍ منفجرة بوجهٍ حانقٍ مكفهرّ محطّمٍ
داني لقد هربت نورة مع جارنا المصريّ بعد مشاجرةٍ حدثت بيننا
طلقتها ورحلتْ مشمئزّة من ذقني الطويلةِ وثيابي الرثّة التي لا أبدلها
وأنت تعلم كم هو مضنٍ العمل في مزرعةِ الأبقارِ والبساتين والوقتُ لايسعفني لأبدو أنيقاً كنورة والأطفال يبكون ياداني لقد انسلخت نورة عنا إلى الأبد يجهشُ كأمّ ثكلى أغرقت البحر بدموعها

يقفُ داني مذهولاً كان يكفيهِ الهروبُ من قصصهِ التي تضجّ في رأسهِ ليجرّ الله كلّ الخائبين في محيطهِ إلى سلامهِ وعزلتهِ لحكمةٍ لايعرفها إلا الله

حسناً حسناً عليك أن تقبل خيارها ،وتحاولُ أن تتقبل حرية الاختيار في هذه البلادِ اسمع البناية عندي تتسع لك ولاطفالك أحضرهم غداً وستطبخ لنا ورق العنب والأرز وأحاول ملاطفة أطفالك قدر الممكن

وهذا ماحدث بالفعل لكن الملفت بالأمر أنّ أولاد أسامة كانوا ينامون طول الوقتٍ لقد رفضوا التأقلم مع مجتمع السويد وكأنّ دماغهم تلقى سقوطاً في عالمٍ لا ينتمونَ إليهِ حتى وهم يصعدون الدرجَ تراهم يسقطونَ عليه ويكملون نومهم ،لقد فشلَ كلّ المدرسين بأن يدخلوا فكرة واحدة إلى دماغهم وكأنّ جيناتهم تعدهم لمزارعِ البقرِ والبساتين يسخر داني ثمّ يسألُ نفسه.. ترى ماحكمة الله أن ينجب أسامة وأكون عقيماً لله في خلقهِ شؤونٍ

كانت أصواتُ الموسيقا والرّقصِ تتسربُ إلى آذانِ أسامة فتشتعلُ غيرتهُ يبدأُ بتعميقِ ضرباتهِ في حفرِ الأرض ِ كمن يشتهي لويدفن نفسه حيّاً
كيف استحقّ هذا المصري قلبها! كيف سلبها عقلها !
إنّ أصوات صفعاتهِ لها وصراخها تصلُ مسامع الأولاد ويقفُ أسامة مكتوفاً لاحولَ ولاقوة ،هنا فلتسقط أنت وشرقيتك
يلعنُ الساعة التي قرر بها السفرَ ويبتلعُ مرارتهُ معلناً أنّ للحميرِ اصطبلاتها ما إن أفلتتْ منها حتى عاثت الخرابَ والدّمار حولها
مخلفة إرث الغباءِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى