“كأنّك أنّي”… القصيدة تفكّ أصفاد القلب

عبد الرزاق الربيعي | شاعر ومسرحي وكاتب صحفي

بدون موعد، كان لقائي الأوّل مع القصيدة الشاميّة المعطّرة بالياسمين الدمشقي، المضمّخة بعبق التاريخ، ببغداد، خلال مهرجان بابل الدولي للفنون والثقافات، وفي فندق فلسطين ميرديان، اجتمعنا، كنت قادما من مسقط، سألني صديقي الشاعر فضل خلف جبر القادم من الولايات المتحدة الأمريكية عنها، أجبته: إنّها الشاعرة السوريّة سميّا صالح، كنّا قد قرأنا لها نصوصا متفرّقة في الصحف، والمجلّات الثقافيّة، وصفحتها بالفيسبوك، وقبل ذلك حدّثنا عنها الصديق الشاعر علي الشلاه مدير المهرجان، اجتمعنا على طاولة، وكان يشاركنا الجلسة فريق فيلم” دمشق حلب” للمخرج باسل الخطيب، ونجومه: صباح الجزائري، وسلمى المصري، وكنده حنا،سحر فوزي وعبدالمنعم عمايري،ومع الفنان حسام تحسين بيك، وما أجمله من لقاء جمع : دمشق، ومسقط، وبغداد، وبابل، وحلب على مائدة واحدة، وكان لابدّ للقصيدة الدمشقيّة أن تعزف على وتر الروح في هذا اللقاء، فكان صوت الشاعرة سميّا صالح، حاضرا، فانساب بكلّ ما في نصّها من عذوبة، وبوح امرأة “تبني في ذرى الأشواق بيتا” كما تقول، فانسابت قوافي العشق النابضة من بين سطورها، وكانت تزداد بهاء كلّما تتجلّى ألفاظها، ومعانيها الفيّاضة :
سَـأَرْصُفُنِي عـَلَى شـَوْقٍ كَحاءٍ
ويَرْسُمُنيِ عَـلَي كَـفـَّيْـكَ بَـاءُ
أُعَـلِّلُ فِي قَوافِي الْعِشْقِ قَلْبِي
لِأَنَّ هـَواكَ فِـي صـَدْرِي بَـهـَاءُ
وتَـنْـبُضُ فِي سُطـُوْرِي أُغْنِياتٌ
يُعَطِّرُها عـَلَى الْمَعْـنَى الْصَّفاءُ
أُحـاوِل ُ أَنْ أُغَـرِّد َ كُـل َّ حـِيْـنٍ
وَيُـطـْرِبُ خـَافِقِي فِيْـكَ الْغِنَـاءُ
وتُـصـْبِـحُ كـُلُّ أَيـَّامِي غـَرامَـاً
فـَعُمْرِي فِي مَحـَبَّـتِـكَ امْتـِلاءُ

وظلّ صوتها ينساب متدفّقا مثل شلال من حروف مدجّجة بالدهشة، والشعر طائر لا يحلٌق إلّا بجناحي الدهشة، في بقيّة اللقاءات التي جمعتنا في شارع المتنبي بمكتباته العريقة، والمدرسة المستنصرية، والطريق إلى بابل، والعودة منها بعد أن تلقي قلوبنا حمولتها من غناء، وزهور على منصّة مسرحها التاريخي لتفتح الفضاء واسعا لتلقي غيوم العشق حمولتها من مطر الكلمات، كما رأينا في ديوانها الذي بين يدينا ” كأنك أنّي”، وقد وضعت أمامنا أوّل مفاتيح قراءة الديوان في العنوان حين أحالتنا إلى الحلّاج، وقوله :
” عجبت منك ومني يامنية المتمنّي
أدنيتني منك حتى ظننت أنّك أني”
ففي الديوان الذي نسجت معظم نصوصه على الطريقة المتعارف عليها في الصياغة الشعريّة العربيّة، تكثر الإشارات، والرموز التي استعان بها شعراء الصوفيّة في صياغة نصوصهم في العشق، ساعين إلى اختراق الحجب، والإتّحاد بالذات الإلهيّة، لكنّ الشاعرة سميّا صالح أضفت طابعا رومانسيّا على نصوصها التي جاءت متدفّقة، مشبعة بعاطفة أنثى، لتعطي نصّها شيئا من روحها:
يـَا غـَيْـمَـةَ الْعـِشْقِ ، حُـطـِّي فـِي أَمـَاسـِيـْنـَا
لِـكَـي نـَبـُوْحَ عَـلَى آفـَاقِ شـَاطـِيـْنَـا
يـَوْمـَاً سـَنَـرْكَـبُ جـُنْـحَ الـْغـَيْـمِ، نُـمْـسـِكـُهُ
ويَـبْـعَـثُ الْـعِـطـْرُ مـِنـَّا مَـنْ يُـضـَاهـِيـْنـَا
نُـحـَادِثُ الْـمَـوْجَ ، نَـمْـشِـي فـَوْقـَهُ غـَدَقـَاً
لـِيُـصـْبِـحَ الْـبَـحـْرُ فـِي أَبـْهَـى مَـرَاعِـيْـنـَا
وأَنْـتِ يَـا دَهـْشـَتِـي ، يَـا سـِرَّأَوْرِدَتِـي
يـَا لـَمْـحَـةَ الـْحـُبِّ تـَحـْنُـوْ فِـي أَغَـانِـيـْنـَا

ويتكرّر هذا الملمح الجمالي، في معظم قصائد الديوان، حتّى لتبدو مسكونة بالعشق حدّ الذوبان في ذات المعشوق الذي يبقى يقيم في الحلم إيمانا من الشاعرة أن “من سكن باللقاء فما هو عاشق عند أرباب الحقائق، فالشوق يسكن باللقاء، فيما يهيج الاشتياق عند الالتقاء” كما يقول شيخ المتصوّفين ابن عربي المدفون في دمشق:
أَشْتَقُّ مِنْ رُوْحِي نَسِيْمَ رُباكَا
وأَغُوْصُ عَلِّي فِي الْنَّسيْمِ أَراكَا
وأُغازِلُ الْنَّجْمَ الْبَعِيْدَ لَعَلَّنِي
فِي ذاتِ لَيْلٍ أَصْطَفِي لُقْياكَا
فَأَصُوْغَ مِنْ ضَوْءِ الْنُّجُوْمِ قَلائِداً
مَنْ يَسْتَحِقُّ ضِيا الْنُّجُوْمِ سُوَاكَا ؟
فَلَعَلَّ ثَغْرَكَ قَدْ يَرِّقُّ هُنَيْهَةً
لِيَكُوْنَ خَمْرُ الْرِّيْقِ كَأْسَ لُماكَا

وهي بذلك توقد ذاتها لصياغة ” أسطورة الغزل “، وفي رحلتها الكونيّة تلك تستعير ” براق الحبّ” ليمضي بها على جناحيه للأزل، وقد يصل بها الغلوّ درجة، كما لدى المتصوّفة،عندما يبلغون أقصى درجات اتّحادهم بالمطلق، فتقول:
لَـوْ كـَانَ مِـنْ رُسـُلٍ لِـلْـعـِشْـقِ نَـتـْبَـعـُهُـمْ
لـَكُـنـْتَ فـِي نـَظَـرِي مـِنْ اَعْـظـَمِ الْـرُّسُـلِ
بل أنّها لشدّة الوجد تنسى الزمان والمكان، والكيفيّة التي يكون عليها، لتواصل ذوبانها في المعشوق :
أُحِبُّكَ قَبْلَ الأَيْنَ والْكَيْفَ والْمَتَى
وأَحْلِفُ بِالآهَاتِ والْوَجْدِ والْقُبَلْ
وأَسْتَافُ مِنْ خَدَّيْكَ ضَوْءً لِمُقْلَةٍ
تُعَطِّرُها الأَشْواقُ آياً مِن الْغَزَلْ
وحين تشعر أنّ هذا العشق الذي كما يصف فعله شمس الدين التبريزي بكلمتين هما” يفكّ الأصفاد”، فالشعر لدى الشاعرة سميّا صالح يفكّ أصفاد القلب، لأن العشق حفر أنفاقا في الروح، وتغلغل عميقا في الوجدان، لأنّه ليس بالحدث العابر، فقد بعثر وجودها، وكيانها:
أُرَتِّبُني عَلَى كَفَّيْكَ نَزْقَا
وصَيِّرْنِي بِحَقْلِ الْوَقْتِ عشْقَا
وأَحْرِقُ فِي مَسافَةِ خَافِقَيْنا
مَساراتٍ إلَى مَأْواكَ أَرْقَى
وأَفْنَى فِي هَواكَ وَكُنْتُ أَدْرِي
بِأَنِّي فِي طَريْقِ الْحُبِّ أَبْقَى
لذا فقد غرقت في النشوة وهي تستذكر المعشوق البعيد الذي لا يغيب، فتتدفّق الصور الفنّيّة المرسومة بدقّة لتنقل الدوائر التي أثارتها تلك التفاصيل على صفحات مياه الروح، فحملت معها تلك الأحاسيس :
وَمَا غـِبْتَ عـَنِّي لِأَنَّ الْعُـيُونْ
تَراكَ فَـأَسـْكَرُ فِي نَـشـْوَتِي
فَـيَا أيـُّهَا الْمُسـْتَحِيْـلُ الـَّذِي
يـُعَـانِقُ بِـالْعـِشْقِ تَغْرِيْـدَتِي
أَتـَيْـتُ لـِبـَحْـرِكَ مِـنْ خـَافـِقٍ
تَـسَامَى إِلـَيـْكَ بِـنَـبْضٍ فتي
أمّا “قِـلادَة حـَنِـيـن ” عنوان أحد نصوصها، وهي نادرا ما تضع العناوين، سيرا على نهج الشعراء العرب القدامى، فهذا النص يفيض غنائية، لثرائه الموسيقي كون الشاعرة نظمت النص على مجزوء الكامل (متفاعلن متفاعلن)، وزاد من ذلك انتقاؤها لمفرداته الرشيقة، ومعانيه الدقيقة:

اَنَـا إِذْ جـُنِـنـْتُ بِـحُـبـِّهِ
سَـأَلُـمُّ أَحْـرُفَ قـُرْبـِهِ
وأَبُـوْحُ حَـتَّـى أَرْتَـوِي
شـَوْقَـاً لـِنَـبْـضـَةِ قـَلـْبـِهِ
وأَصـُفُّ أَكْـوَانـِي لَـهُ
اللـَّهَ يـَا لُـغـَتِـي بـِهِ
سـَأَصـُوْغـُهـَا كـَقـِلادَةٍ
تـَبـْغِـي الْـوُصُـوْلَ لِـصـَوْبـِهِ
سـُبـْحَـانَ مـَنْ سَـنَّ الْـهَـوَى
عِـطـْراً يـَضـُوْعُ بـِتـُرْبـِهِ
سـَأَذُوْبُ مـَا بـَيـْنَ الـْسـُّطـُوْ …
رِ عـَلَى خُـطَى مـِنْ دَرْبِـهِ
وأُلَـوِّنُ الأَشـْيَـاء َ فـِي
لـَيْـلِ الْـغـَرامِ بِـجـَنـْبِـهِ

وتستحضر في نصّ لها روح الشاعر بدر شاكر السيّاب، وبويب نهر الشاعر الحزين الذي ورد ذكره في عدد من قصائده، وهي تقف على ضفة النهر، وتجعل من السيّاب ممرّا لاستحضار أوجاع العراق، و”صوته الذي يمزّق الظلام” بنصّ كتبته وفق نظام التفعيلة لينسجم الشكل مع التيّار الشعري الذي كان السياب من رواده في خمسينيات القرن الماضي، وكأنّ الشاعرة أرادت أن تجعل الشكل منسجما مع المحتوى تحية لمنجز من منجزات واحد من أعمدة الحداثة الشعرية العربية :
وَحِيْنَ وقَفْتُ عَـلَى ضِفّةِ الْشَّطِّ ،
خَاطَـبَنِي الْماءُ بَـيْنَ مُوَيْجَةِ شَوْقٍ
وَرَشـَّةِ عِطْرٍ
وَكانَـتْ مَلامِحُ بَدْرٍ عَـلـَيْـهِ
وكانَتْ تَـضـُوْعُ الْقَصَائِدُ مِنْ
مُقـْلـَتَـيْهِ رَسائِـلَ حـُبٍّ لِبَصـْرَتـِهِ
وبِـها شَهْقَةٌ مِنْ حَنِيْنِ الْرَّحِيْلِ ،
وَعِـطْرِ الإِيـابِ
بُـوَيْـبُ .. بُـوَيْـبْ “
ومن العراق، وأوجاع السيّاب إلى سورية الرؤى، والجمال في هذا الزمن الصعب،فتستدعي ولادة بنت المستكفي وقولها” أغار عليك من نفسي ومني
ومن ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني”
لتظل في دائرة العشق حتى حين تكتب عن سورية التي تقف اليوم شامخة متحدّية كلّ الظروف المحيطة بها، فتنسج نصا تعبّر عن حبّها لبلدها:
فَسُوْرِيَـةُ الْحَنِيْنِ سَمـَاءُ زَهْوٍ
وَباقِي الْكَوْنِ هَسْهَسَةُ الْثَّوانِي
لَهَا شَوْقِي ، ويَسْبقُ كُلَّ شَوْقٍ
وَصَارَ الْشـَّوْقُ يَـمْلأُ لِي كيَانِي
يُـغَـنِّي فِي مَلامِحِهَـا فـُؤادِي
فـَيَرْقُصُ بِاسْمِهَا خِصْرُ الأَغَانِي
وَإِنِّي لَوْ فَرَشْتُ لَهـَا ضـُلُوْعِي
“إلَى يَـوْمِ الْقـِيامَةِ مَا كَفَانِي”
ولم تنس ” دمشق” التي يشيد العشق سياجا من الياسمين، والبهاء، والروح،
والحب الذي أصبح قدر الشاعرة:
قَـدَرٌ بِـأَنَّ الْشـَّامَ مِثـْلُ سَحـَابَةٍ
مَطَرَتْ ، وإنَّ دِمَشْقَ فِيْهـَا الْبَرْقُ
صـَيَّرْتِ قـَلْبِي فِي هَواكِ مُعَذَّبـَاً
وَجـِراحُ قـَلْبِي خَابَ فِيْـها الْرَّتْـقُ
وبكل رقّة، حين يطيب لها عناقها تتساءل:
رِقِّـي عَـلَيَّ ، فـَإِنـَّنِي بـِكِ مَغـْرَمٌ
إِنْ لَمْ تَـرِقِّي،مَنْ تـُرَى سـَيـَرِقُّ ؟

وأنا بهذه المقدّمة، لم أكتب قراءة نقديّة ديوان” كأنّك أني” الشاعرة سميّا صالح بل وضعت أمام القاريء بعض المفاتيح التي تعينه على الغوص في أعماق النصوص، تاركا له مساحة واسعة للإبحار في محيط المعاني التي تنطوي عليها، والاستمتاع بتذوّق الألفاظ التي تقف خلفها عاطفة مشبوبة، وروح شاعرة تجيد وصف أحاسيسها الفيّاضة، بتمكن، وتمتلك قدرة رائعة على كتابة الشعروفق نظام الشطرين في زمن أدارت به التجارب النسوية له ظهرها، لنكسب صوتا شعريّا نعوّل عليه كثيرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى