كارول المشمشية (قصة قصيرة)

أسامة العيسة | فلسطين

كارول، امرأة مُشْمُشية، بالمعنى الدرويشيّ، وليس المتعارف عليه لدى فلاّحي بيت جالا. التفاوت بينهما، كطرفي صراط، ليس شرطًا أن يكون مستقيمًا. من النضج المُشْمُشيّ، إلى موته السريع.
فاقت المرأة المُشْمُشية، في يومٍ لم يستطع النقّاد، وكاتبي سيرتها، تحديده، لتقطِّر روح المُشْمُش ورائحته، شعرًا، وكأنّها ترتكب، جرمًا، خلسةً، كفعل فلاّحي بيت جالا، الّذين قطّروا عنبهم، نبيذا، ودفعوا رُشَى، لسلسة من الولاة المسلمين، ليغضوا النظر، ولم يغضوا عن أخذ قوارير مقطّرة، فوق البيعة، على الرُشى.
نهضت المرأة المُشْمُشية، ومرّت، عن دار نينا. عندما كانت طفلة، سمعت الاسم يمشي على شفاه نساء بيت جالا، ورجالها، فتعلمت استراق النظرات للبيت المسخوط.
وتعجبت المُشْمُشية، من شكيمة نينا الملعونة، بعلاقتها مع وجهاء فلسطينيين، وحكام عسكريين إسرائيليين.
تتذكر المُشْمُشية، بأنّ بيت نينا المشبوه، كان في “قلب المدينة، بجوار البلدية والبنك الإسرائيليّ الوحيد لؤمي، والكنيستين الأرثوذكسية واللاتينية، ومكتب البريد ومطعم الدجاج الشهير قعبر والمدرسة”.
بقي بيت نينا محله، ولكن نينا لم تعد فيه، تحوّل إلى مركز شرطة، لواحدة من السلطات العديدة التي توالت على المدينة، في تاريخها المعروف، وغير المعروف.
ضحكت المُشْمُشية، في عبّها، وشريط الذكرى، يتوالى في ذهنها، والعصف بالمكان، وتحوّلاته. وسخرت من كاتب المجانين الذي سمى نينا، في روايته المجنونة: لينا، وزاد، للمزيد، مستذكيًا توريته، اسم العائلة: لينا شجر. وابتسمت وهي تقارن بين مُشْمُشُها، وسِفر روايته المُشْمُشيّ، فحمدت الرب، على مُشْمُشُها.
نزلت إلى مفرق باب الزقاق، الذي فرّق، ذات يوم، بين مسيحيّ بيت لحم ومسلميها اليمنيين، ومسيحي بيت جالا ومسلميها المرتدين القيسيين. وكان على كل عروس قيسيّة ترتدي الأحمر، أن تغيّر زِيها للأبيض، للتمكن من الانتقال إلى الجزء اليمنيِّ من المفرق. سارت على شارع القُدْس-الخليل، الذي سار عليه فاتحون، وأفاقون، وغزاة، وفنانون، ورحالة، ومغامرون.
لم تقف على إشارة المرور، وحدقت في ملصقات الشهداء، والقادة، والحزب الحاكم، والماركات الأميركية، ودعايات لمطرب سيغني في الجانب الأردني للبحر الميت، لا جانب فلسطيني للبحر الميت، رغم تأكيدات الدكتور صائب الدونكشتي.
مرّت عن مخيم العزة، وزبالة الاونروا، وقصر الفتيت، الذي رفض عرفات تحويله إلى متحف، فاضحي فندقا شراكة السلطة والمال، واصطدمت بغرافيتي بانكسي، فأر يحمل نقافة، أزعج أولاد المخيم. أخرجت مفكرتها وخطت: “شارع جديد. حجارة بناء. حصمة، رمل. جرافة. جرافيتي. سيارات سيارات سيارات. مطاعم مطاعم مطاعم. رهبان دير. حُرّاس مهد. بوليس سياحي. عنف. أمن. قصر رئاسة. بنك. شمس. ليمون. بيت”.
دخلت الكنيسة، التي توالت التلحميات على مذبحها بالنواح، سنوات لا عد لها. منذ موت ادونيس، إلى موت المسيح، وقيامتهما. جلست بجانب صديقتها المؤمنة، لحضور قداس دفن المسيح. فوضى. وازدحام، وكشّافو نظام، ولكن عينيها، تجوسان، بحثا عن فيروزها: مس لوريت. أبصرتها تشبه شبهها قبل أربعين عاما. ولكنها، كما كانت، ما زالت في الكنيسة صامتة. يمنع على النساء التمتمة في الكنيسة، إن عسر فهم المرأة فلتسأل زوجها، في بيته. هكذا قال الرب ذات يوم. الرجل تاج المرأة، والمسيح تاج الرجل، وابن الرب، فالجالس إلى يمين الرب، فالرب نفسه.
ولكنّ الدنيا تتغيّر، حتّى في بيت لحم التي لا تتغير. الكاهن الذي كان يلوم اليهود، لدم الفادي المتوقف في حلقهم، يُجهز الآن على داعش بالدعاء والشتائم.
تقدمت المُشْمُشية إلى تابوت المسيح، لتأخذ وردتين، غمز الكاهن، وابتسم، قالت عيناها: أنا ابنة كنيسة الرب. خرجت، سعيدة بدفن المسيح، الذي لا يدفن، وإن دفنه الكاهن بعدد شعر الرعية، وشعرت بأنّها قادرة على قضم “قطعة شمس”، كي لا تموت النَّار بداخلها، وهمست لتفسها: “قد أبلع بحرًا هائجًا، حتى لا يهدأ غضبي”. لا بحر كالبحار في بيت لحم، بحرها بحر ميت، غير كل البحار.
اكتشفت بأنَّ: “جميع الأحرف طلاسم، والكلمات ألغاز، بين الألف والياء”، ولم تستمع لطنين أذنها، لحقها من تابوت المسيح: يا مجدفة، أنا الألف والياء، أنا البداية والنهاية.
وجدت نفسها ترد: “في البدء كان المُشْمُش”. ردّ الصوت: في البدء كانت الكلمة، التي ستصبح روحًا. تمتمت: “في المُشْمُش؛ أوَّل الصيف وقصص الحب الأفلاطونية”.
تبددت الأصوات، واختنق الحوار، بين ابنة المُشْمُش، وابن الرب. فدهمها حلم: “لا يليق بالثوّار” كما قيل لها لاحقًا. مضت في طريق القُدْس، قلبها ينطّ على أرصفة الطرق، تمارس الحب على درج باب العمود، يدهمها ألم من حركة جنين، يوقظها، إلى ريموت الفضائيات، تفاجأ بأنَّ “فلسطين على سلم الأولويات”. يا لهول العرب.
وضعت أصابعها على الكي بورد، وخطت له، لتضبط إيقاع روحها، كمُشْمُشية بعيدة عن الشأن العام، وقوانين الجبهة ناخرة العظام. ذهبت أخيرًا إلى السرير “عارية تمامًا من كل شيء”. أو هكذا شبه لها، فلا عري في العري. قالت له بأنّها سترحل، عن معصرة روحه، وخمارة جسده، ولكنّه لم يفهم.
بحثت عن “أسباب الوجع”، فعرقت وسعلت، نزلت من فراشها، وألصقت وجهها بزجاج النافذة البارد، زحفت “إلى ارض المعركة. لا جيوش أو جنرالات”. نظرت إلى فراشها، رأته يغرق: “بكتبٍ مقدسة وغير مقدسة. برسائل حب وخطابات عداء”.
خاطبت الفراش سأعيش: “بالسؤال، والحيرة، والغيرة، والفرحة، واللهفة، والصفوة، والنشوة، والقوة، والقهر، والبعد”.
قال لها الفراش: مكانك هناك، وليس هنا.
جلست على الأريكة، وأجلسته على حجرها، حطت له مكياجًا، وألبسته وردًا وخرزًا، ولعبت معه لعبة الأميرة، وابن الحارس. حُرّاس المدن، غادروها، هربوا، تبددوا مع الرياح.
تطاول، وقفز عن حجرها. رمى يده على كتفها، فلم تستطع، لخفتها الحراك، لا يثقلها الثقل، تثقلها الخفة. قال لها: “ستكون أمي أجمل اللاجئات إذا أُجبرنا على الرحيل”.
لم تعد تتذكر لاحقًا، ما حدث بعدها، تقول بأنّها سمعته يقول: “فليسقط الطاغية”، أمَّا المُشْمُشية، مقطّرة الكلمات، ابنة الأبواب؛ باب الزقاق، وباب الدير، وباب العمود، وباب الزاوية، فقيل بأن أخر مرة شوهدت، كانت تطير من أعلى أسوار القُدْس، إلى جبل الزيتون، عفاها الله، من السير على الصراط الذي سيمسكه النبي العربي من طرف السور الشرقي، ويمسكه النبي الفلسطيني من مصعده. عندما وضعت قدماها محل طبعات قدمي النبي الفلسطيني على المصعد، حيث آخر مرة شوهد فيها قبل صعوده المبجل، ألقت نظرتها الأخيرة على القُدْس، ودمعت، كما دمع قبل ألفي عام مواطنها النبي، وخاطبت المدينة التي تقتل الأنبياء والمرسلين إليها، وتطعن المشمشيات، وتجرجرهن في الشوارع، وتصلبهنّ على باب العمود.
قيل بأنَّ المُشْمُشَ لم يثمر في بيت جالا، ودام المحل ثلاث سنوات وثلث، حتى ظهر مار نقولا، قرب دار نينا، وكاد يتوه لأن اسمها تغيّر، ولم يعد أحد يذكر نينا وحكاياتها، مع العرب واليهود، والمقاولين، والعشّارين، والسماكين، والعسس.
لم يتعرف النّاس على مار نقولا، أنكروه، قبل صياح الديك، وبعده، قال لهم:
-ألا تذكرون، من وقف فوق كنيستكم، يمسك قذائف اليهود الطائرة، ويبعدها عنكم. يا لذاكرتكم، ويل للمدن التي تبيع هواءها..!
طلب مار نقولا غفران السماء للمدينة التي باعت روحها “لعشرين تاجرًا”، ومثل كل الحكايات، سيختلف النّاس، أو من تبقى منهم، فيما حدث. قيل بأنّ السماء أمطرت كبريتًا، لم يقتل إلَّا التجّار، فأنجبت المدينة، التي استمرأت التجارة، تجّارًا. آخرون، يؤكدون بأنّهم رأوا المُشْمُشية، تسير في أزقة المدينة، تحت المطر، تتفقد أشجار المُشْمُش اليابسة، وتعد المدينة بمُشمُشيات سيشكلن سربًا بين الأرض والسماء. ثم غابت، طارت، صعدت، لتجلس هناك، على يمين مواطنها الذي أضحى ربًا، وتنظر إلينا من علٍ.
**
*الاقتباسات: كارول صنصور، في المُشْمُش، الكتب خان، القاهرة، 2019م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى