أبطال من ورق

محمد فيض خالد | مصر

 

في قُرانا التي تناهت في البعد، فاندست بين زوايا الشريط الأخضر لنيل مصر المحروسة، منذ قرون بعاد، تعلّق الفلاح البسيط بسيرِ الأبطال، وألِف حكايا الشّجعان، هامت واحه شغفا بأفعالهم الخارقة ، بل وتمادى بهِ الحب؛ فلجأ أبناء الكدّ إلى تمجيدهم والتغني بمآثرهم، وترديد بسالتهم التي أصبحت مهوى الأنفس ، لتصبح أنشودة خالدة يردد نغمها الكبار والصغار .
وجد الناس في قصص أولئك المغاوير ؛ ما يُكمل نقصهم ، وينتصف لضعفهم ، ويقوي مواطن العجز فيهم ، فالبطل الشعبي في تصور القروي ، يأخذ بيد المظلوم ويصارع الظالم ، يتصدى للقوي لو استباح الضعيف ، هو الذي ينحاز عن إيمانٍ لقضايا الفقراء العادلة ، يهيج الجماهير ضد المستبد ، وفي سيرته نبراس للنصر والعدالة .
تربت نفوس أبناء قرانا الطيبة ؛ على إرثٍ عريق من الملاحم ، التي حتما الغلبة فيها تكون لأهل الخير ، والانكسار للشرِّ وأعوانه.
في قريتنا تُروّج الأخبار ، وتختلق القصص دون تثبت ، تنتشر كانتشار النار في الهشيم ، لا لشيءٍ إلا أنّها وافقت هوى الفقير وصاحب المسألة ، فاتاحت لها الأرضية الشعبية التي تضمن لها الرّواج والشهرة، تتلاقى عليها أحلام البسطاء ، وتتمسح فيها آلامهم التي صمت عنها أذان الإنسانية الجاحدة .
يتحاكى الناس في حماسٍ يلهب المشاعر عن قصصٍ غلفتها الخرافة ولكن قبلتها ذائقة المعدمين، فحولت نصوصها لحقيقة، فإذا اعملت عقلك ، تكشّف أمامك أنّها نسج لخيال ِ فلاح ، سعى للهرب من واقعه المُرّ ، تماما كما يركن لظلّ شجرة الصفصاف ؛ هربا من حر الشمس ساعة يُضرب بفأسه.
بزغ نجم ( أبو زيد الهلالي ) وشجاعته في النزال والحرب ، وردد القوم شرفه وسجاياه في معاملة خصومه ، تتناقلها ألسنة الرواة ، وكأنها قبس من كلام السماء .
كنت صغيرا لاهم لي إلا أن ابحث عن الغريب، اهجر أحيانا كثيرة ملاعب الصغار ، اتسلل فاراحم أرجل الكبار عند المصاطب ساعة العصرية أو مع حلول السمر ، التصق (بميكنة) الكلام في قريتنا ، تلك هواية امتلكتني ، في وقت أنا في أشد الحاجة فيه للعب والمرح ، منه إلى الجدّ والبأس .
انتظر بشوقٍ وصول شاعر الربابة القادم من أقاصي الصعيد ، تعود جار لنا استقدامه لمدة يسيرة، يهيئ الدرب فينكس ويتناوب الصغار اغراقه ( بجرادل) المياه ، ومن بعد صلاة العشاء يتصل حبل السامر قيأتي السمار المكان ، ثم يهل عليهم صاحبنا بسمرته الداكنة ، وشاربه الطويل بأطرافه الحداد التي تشبه السكين ، يتلمظ بكثرة ، فيتحرك شاربه الضخم ، ليرسم خيالا مخيفا فوق الحائط المقابل دون أن يعلم.
كنت اكره هذا المنظر ، أدير وجهي بعيدا على الفورِ ، يمد أصبعه بين أسنانه ؛ يخرج ما نشب فيها من بقايا اللحم، ثم يتجشأ بصوت عال ، يرد صاحبه بجواره بصوت مسموع : صحة .. صحة ، ثم يتوسط القعدة والتي غالبا ما تميّز عن جلسة السّامر كله ، فراش من الوبر ومسند كبير يتكئ عليه الفنان ، يمسك بربابته في ثقة ، وقبل أن يبدأ ، يتفرس الوجوه من حوله بعينين جاحظتين كحبات الطماطم ، ثم يقول بلكنة صعيدية ثقيلة : سلام عليكم يا رداله..
كثيرا ما كانت تسيطر عليّ نوبة هيستيرية اضحك فيها بقوة ، لا افق منها إلا على توبيخ الرجال ، ونظرات التقريع .
وما إن يبدأ فيقول : وأبو زيد يا سادة يا كرام …..
حتى يتعالى التصفيق والصياح ، يخلع البعض طاقيته وملفحته، ويلقي بهما في الهواء ، ثم يتبعهما بقفزة عالية ، وعليه آثار النشوة والطرب ، إنه ( أبو زيد الهلالي سلامة) البطل العظيم ، محبوب الغلابة ، ورئيس جمهورية العدل الوحيد في ريفنا المسكين .
يستمر السّامر لأيام ، وعلى مدار انعقاده ، لا حديث لأبناء الطّين إلا مغامراته وبطولاته ، الهلالي سلامة فعل وفعل ، ترى الواحد من هؤلاء يلوح بفأسهِ في الهواء ، ويقول : شفت أبو زيد لما ضربه قسمه نصين… شاله فوق الحربة بتاعته زي الخرقة ورماه..
وقد يحتد الخلاف بين المشجعين ، في التفاضل بين أبي زيد الهلالي ، وزياد بن غالب .
أمّا الصغار فكان حالهم حال ، يجوبوا الأزقة والدروب وحول القرية ، في مبارزة حامية الوطيس لا تنتهي ، سلاحهم فيها أعواد الذرة وأحطاب القطن ، في صمتٍ لا تسمع عند النزالِ إلا طرقعة الضرب ، وكلمة حماسية واحدة ، تخرج على فترات : ها ها ها ها.
في قريتنا _ قديما _ عرفنا ابطالا من ورق كثر ، ربما كان المقصد الذي الجأهم لتلك البطولات المزيفة وترويجها على الأسماع ؛ الرغبة في إضفاء طابع البطولة ، وعنصر القوة والبأس على صاحبها ، وربما تعدى الأمر فيصبح، دفعا للغُموضِ الذي يكسب صاحبه المهابة .
ردد أهل القرية قصة مختلقة ، عن رجل ٍ ذهب بنفسهِ ليصارع ( المسّحور ) والمسّحور لمن لا يعرف ، هو إنسان عادي رماه حظه العاثر يوما في طريقِ ساحرةٍ شريرة، مسّته بعصاها واجبرته بعزيمتها النافذة ؛ أن يأكل لحما نيئا من يدها ، وتلك علامة الانقياد وأثر العزيمة ، فيتحول في التّوِ واللحظة إلى مخلوقٍ برمائي ، يقضي نهاره بين طيّاتِ الماءِ ، وفي الليلِ يخرج فوق الجسور يتربص للمارة، وكُلّ أمانيهِ أن يتخلص من قيودِ السّاحرة ، ولا حيلة أمامه _ حسب رواية العامة _ إلا أن يجذب إنسيا للماءِ ، فيحلّ محله عندها يُطلق من أسرهِ ويعود لأصلهِ.
في ليلةٍ حالك السواد ، امتلأ فضاء قريتنا الآمنة بأصواتِ البكاء والعويل ، هرع الناس من الدّروبِ باتجاهِ الترعة ، تفاجئ القوم بصاحبنا وقد مُزِقت ملابسه ، وآثار الضرب المُبرح واضحة على جسمه ، التف الناس من حولهِ ، وبسؤالهِ عن السبب ، جلس على الأرضِ يلتقط أنفاسه المكروبة ، ثم قال : المسحور .. المسحور .. ضربت المسحور كان عايز يجرني في الميه..
هاج عندها أهله ، وعلا الصفير ،ومشى البطل بين الناس ممشوق القامة _رغم ضعفه_ ينظر بخيلاءٍ ، ومن وقتها عُرفِ صاحبنا بقاهرِ المسحور ، مرّت الأيام وكشف بعض أشقياء القرية ؛ أن صاحبنا قد اختلق القصة من بناتِ أفكارهِ بعد تعرضه ( لعلقة موت ) من بعض الشباب لنزاع نشب بينهم .
ظلت القصة تتردد في القريةِ على الرغم من زيفها ، ظلت محببة حتى ولو من باب التفكه، فصاحبها لم يجلب الضرّ لأحد ، ولم يشوه سمعة أحد ، ولم يجني من وراء بطولاته الكرتونية مكاسب تُدرّ عليه ربحا ماديا، اللهم إلا عبارات الثناء والتكريم .
استدار الزمان في ريفنا ، فاختفت طائفة الظرفاء ، وحلت مكانها فرقة (الهليبة) أبطال من ورق، وهؤلاء أشدّ ضررا وأكثر شراسة، فهي تسعى خلف أحلام أبعد من أحاديث السمار، وجلسات المصاطب، اصيبوا بمرضِ الشُّهر ولوث الوجاهة الاجتماعية، وجنون العظمة ، وداء الظهور وتصدر المجالس ، وشهوة الصّيت والسُّمعة، والعبور نحو المجدِ الشّخصي ، حتى لو كان على جثثِ وأشلاء الناس _ على حداثتهم_ ، بل واحترفت فئة منهم المتاجرة بأحلام البسطاء ( وبيع الهواء ) وخداعهم بالشعارات الرنانة ، وجذبهم ببراعة التمثيل وحبكة المشهد.
فوثق بهم الذّهماء، بعد أن ائتمنوهم على عقولهم ، يحسنوا الظن بهم حتى ولو سرقوهم ، فقد ورد في الأثر : إن من البيان لسحرا.
والطريف أنهّم على أتمّ استعدادٍ للخلاص من كُل ّمخالفٍ _ حتى وإن كانت عداوته زعما منهم_ فيلطخوا الأوراق لينالوا من سمعته، ويختلقوا معه عداوة وهمية ، يحرضوا عليه أراذل القوم، فيذيغوا أنه عدو الخير والمعروف ، فتهيج الناس عليه ، فيخلوا لهم الجو، ويصبحوا في مأمن من المحاسبة .
البعض منهم مع الأسف، اتخذ الدين ستارا ، والمعروف مصيدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى