رحلة في الجنوب اللبناني قامت بها وفاء كمال (4)

( سحمر ) قاع الدم الأول ( 4 )

كانت أسئلتنا أنا وريما تنهال على ياسر كالسيل، فتوقظ في نفسه آلاف الذكريات ،فكل حجر وكل منعطف من النهر وكل زاوية في القرية تحبل بالحكايا والأسرار. فيحدثنا كيف ذكَّرَه النهر بذلك المجهول الذي كان يعتصر دمه أثناء الاحتلال للقرية. وكان يمنعه من النوم إلى أن تمكن من قذفه خارج البيت إلى الشارع حيث الريح والخوف والرعب والمفاجآت القاتلة، وقد بدت الأشياء حوله أكثر ألفة وقرباً إلى روحه من أية مرة سابقة ،ووجد نفسه مشتاقاً للنهر يغمر فيه قدميه الملتهبتين ليطفئ النار التي تشتعل في دمه وتأكل روحه..ويسترسل قائلاً : كنت أتمنى لو أقذف نفسي على الأرض وأتمرغ فوقها وأنصت إلى الدبيب الخافت الذي يصدر عن قلبها ..ثم أتعرى من ثيابي وأركض باتجاه النهر ..النهر الذي فتحت عينيَّ عليه, صديقي الروحي.

هل يمكن أن يحرمني الاحتلال منه يوما ؟ مرت برأسي طائفة من أصدقائي وأبناء بلدتي الذين استشهدوا وقلتُ لنفسي : أنت مضحك يا ياسر لأنك مازلت تتصرف كالأطفال , وتنسى أن قريتك واقعة تحت الاحتلال .

ثمة عذاب لايصدق كان يغرق روحي , ولم أعد أستطيع الاحتمال، فما كان يحصل أكبر من طاقتي . فانفجرتُ بالبكاء كان بكاء صامتا..ثم تحول إلى نشيج خافت وفي الصباح حملتُ حقيبتي المدرسية وانطلقتُ في شوارع القرية ونفسي تفيض بالحنان والإلفة.

أحسست أن نفسي تسبقني على غير العادة في الطرقات لأصل سريعا إلى المدرسة . وفي الطريق التقيتُ بزملائي من شباب القرية، فتأبطتُّ ذراع صديقي لبنان، وأخذ تُ أهمس بأذنه: علينا أن نحرِّضَ الطلاب اليوم. ولبنان يهزُّ برأسه علامة الفهم والموافقة. ثم توقفنا ونظرنا إلى بعضنا وتعانقنا . كان ذلك اليوم استثنائياً، حيث اعتليتُ ظهر زميلي وألقيتُ خطبة سياسية نددتُ فيها بالاحتلال. ودعوتُ إلى المقاومة الوطنية بكافة أشكالها . وقلتُ: إن المقاومة هي النور الذي سوف يزيل الظلمة. 
كان ياسر يفيض حماساً وهو يستعيد تلك الذكريات , وكأنها تحدث للتو. ويسترسل :
ـ كنت صغيراً ولكنني وجدتُ نفسي أفيض بالكلمات وأتوهج حماسا وأهزُّ بيديَ وجسدي بعنف لأنني أعرف أن الخيار الذي جثم على صدري وأبكاني قبل يوم , هو خيار المقاومة الذي كان علي أن أختاره منذ احتلال العدو للقرية .أما بقية الطلاب فكانوا ينظرون إليَّ بمزيج من الإعجاب والخوف، وقد أثَّرَتْ كلماتي في نفوسهم، وشحنتها بالرغبة لأن يكونوا مثلي وبجرأتي. وما إن نزلتُ عن ظهر زميلي، حتى طوَّقَت الدبابات الإسرائيلية المكان وانْفَضَّ الطلبة وتقدم أحد الإسرائيليين من مدير المدرسة وقال: نريد ياسر الخشن.. وانتشرت ضجة من الترقب والحذر ومئات الإحتمالات كانت تطوف في الرؤوس الصغيرة .
ـ لن نسمح لهم بأخذ ياسر.. سنقاتل عنه ..لن نسمح لأحد أن يمسه بسوء.. ثمة عملاء بيننا. .
ـ المخبر الذي أخبر أخطأ بالإسم المطلوب, (ياسر محمد مسعود). هكذا ورد اسمه في سجلات المدرسة. وليس ياسر الخشن. لايوجد ياسر الخشن بالمدرسة ـ يجب أن نساعده على الفرار قبل أن يكتشفوا خطأ المخبر.
صرتُ قضية وتعاون الطلبة على تهريبي. وبعد ساعة تماماً عادت القوات الإسرائيلية تطلب( ياسر محمد مسعود) . لكنني كنتُ قد أصبحتُ بعيداً.. بعيداً جداً عن أعين الصيادين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى