لي غيمة

شربل داغر | لبنان

 

لي غيمة لم أنجح في تتبعها…

فيها وسادتي، عَتَبتي، وطرفُ الطاولة الذي يتجدد فوقه عصير تفاحتي.

فكيف أمشي، أو انام، أو استرسل في قعدتي، من دونها، وهي حَمَلتني، من دون أن أقوى على جرّها ورائي مثل عربتي الخشبية في صغري، ولا على رفعها مثل نشيدي الأخير…

غيمتي تنساني، وأتفقدها.

لم أفز بها في مسابقة، ولا وقعتُ عليها بعد طولِ مراقبةٍ في زاوية عزلتي…

صوتي، إذ يندس، أو يُمسِّد الخفيفَ في تعاليه.

اصطادتْني، من تلقاء نفسها. أودعتني في ثناياها، كما في كتاب أبيض مفتوح.

انبسطتْ حديقة، أو سريرا، لمجرد أنني هرعت إليها بخفةِ فراشةٍ لا تصل إليها.

تُظللني في شتائي، أكثر من صيفي، 

وتَكشفني في تمام عريي أمام الشهيةِ، الغامضةِ، التي تمدُّ أصابعها الدقيقة صوب أصابعي، من دون أن تلتقي: هي في منتهى أصابعي، وأنا في منتهى أصابعها. نتقابل من دون أن نتلامس، نتعاشق من دون أن نتجاسد…

غيمتي، سِرّي، رسالتي، دفتري الذي تحت إبطي… أأغوص فيها، أم انطنط، أم أندس في سرير الشهوة التي تلمّنا، تلف؟نا؟

غيمتي لِحافي الذي من هواءٍ ورنينٍ، لا تَمسح عَرَقي إذ يتصبب من جِلدها، ولا عسلَ شفتَيها عندما يتقطر من أغصاني…

لها شفتان، في عاليها وفي واطيها.

لي معها لسانان، في طرف إصبعي، وفي منحنى جلدي.

بلى، هي من ورَّطني، من سحبتْني إلى عليائها الدانية، مثل وصيةٍ مؤجلة، وعيدٍ وثني، وتفاحةِ ما لا ينقضي عصيرُه…

لعلها ابتسمتْ من دون إشارتي، إذ كنتُ مشغولا بها عني… 

لم يكن في الوقت متسعٌ لكي أصفف لها كلمات، ولا مقعدا لجلوسي معها. لعلها لم توجه إلي اي كلام، بدليل أنني لم اصل إليها تماما، بل بقيت شاخصا امام مرآتها البيضاء من دون ان اتبين وجهي: 

فقط هذه الالتماعة في عينيّ، وهذه القشعريرة التي تمددت في اصابعي، هي ما يُشعرني بأنها أميرتي التي لا تحتاج إلى تاج، ولا إلى مراسيم، لكي اتعبدها من دون تهيب، لكي اذوقها بطمأنينة المتهاوي من دون صخب في وادي نعمتها العالي.

في بريتي، كيف انصعتُ إليها، 

وبتُّ صاغرا امامها؟!

في شرودي، في تيهي، كيف اتجمع مصعوقا، مخطوفا، في ذلك الحوار الحميمي من دون كلام! 

ما يرقُّ في تناهيه، ويتهادى من دون خلخال، ويلوح من دون مزمار، ما يُبكي من دون دمعته، ويشدّني فيما يبدّدني…

غيمتي، جواز سفري، حيث أنعم بأكثر مما يتيح لي طيران القلة والتعداد.

تمهلي، في نزولي، في احتباس صوتي المترقرق بين وجنتَيها.

كيف لي أن احاسبها، وهي تمسكني بما يطيل مكوثي في المكان عينه، بما يجعل الوهم مغريا، والقيد نفقا! 

لم تتصاغر لترفعني براحتها الطرية، بل ارتفعتُ إليها، وطالت ساقاي لتعبرا الشجرة والنهر والماعز وطابتي والبيت والجيران والأعشاب التي قادتني الى الضفة من دون علمها… لكي أنفث الهواء الصاعد من استكانتي، وأواكب من يواكبني، في ذلك الرواق الذي لا يُمسك بحافتيه غيري.

غيمتي الأصلب من كتاب، 

الوفيةُ من دون عقد، 

التي اسبلت عينيها من دون

إغراء، هي تعرفني، انا لا أعرفها. تومئ من دون إلحاح، وتمضي في طريقها من دون إرشادات.

لهذا لا ينتبه من يظنني قاعدا جنبه، أن لي في غيمتي استعارة تسعني أكثر من قصيدة.

عجينتي، من دون تنور، تتخاطف قصيدتي خبزَها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى