لا تتشاءموا بالشرّ تجدوه

دكتور عادل المراغي |من علماء الأزهر الشريف

البلاء محاط باللفظ والقدر موكل بالمنطق، وقد تتكلم بكلمة فيكتبها قلم القضاء في صحيفة قدرك، وكم رأينا من أناس سيق إليهم البلاء بما سبقت به ألسنتهم، وكم من كلمة بعثت جيوش التشاؤم وجنود اليأس،وكم من كلمة حملت ألوية النصر وأرسلت كتائب الأمل.
احذر لسانك أن تقول فتُبتلى
إن البلاء موكل بالمنطق
وقال آخر:
لا تنطقن بما كرهت فربما
عبث اللسان بحادث فيكون،
ولقد جاء التحذير من النطق بالسوء، أو أن يستفتح الإنسان على نفسه بِشَرٍّ، أو أن يتشاءم بأمر، ويطلق ذلك في مقاله ونطقه؛ حتى لا يُبتلى به، وأن يحسن انتقاء ألفاظه، ويختار الكلمات الحسنة الجميلة التي تدعو إلى التفاؤل وتنشر عبير الأمل والتي تحمل دلالات طيبة، وتحمل روح البشرى، فربما تكلم الإنسان بكلمة كتبها قلم القضاء عليه وكانت حتماً مقضيا.
ومما يدل على خطورة الكلمة في قضاء الإنسان وقدره ما روي عن امرأة فرعون أنها لما وجدت موسي عليه السلام في التابوت قالت لفرعون: ( قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) فرد فرعون: قرّة عين لك, أما لي فلا.
قال محمد بن قيس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ قَالَ فِرْعَوْنُ: قُرّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكِ, لَكَانَ لَهُمَا جَمِيعًا)أي لهدى الله فرعون وجعل موسى قرة عين له ،ولكنه اعترض فانطرد وأشقاه لسانه ،فلو سكت لهداه الله.
وفي هذا المعني روى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم النخعي أنه قال: “إِنِّي لأَجِدُ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِالشَّيْءِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ؛ إِلاَّ مَخَافَةَ أَنِ أُبْتَلَى بِهِ) .
من “الصمت وآداب اللسان”
فالحذر من عاقبة اللسان، و ربما نطق الإنسان بما يكون فيه بلاء ووباء، فإن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه في يوسف: ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) [يوسف: 13]، جاؤوا إليه عِشاءً وقالوا: أكله الذئب، فابُتليَ من ناحية هذا القول، ولمَّا قال لهم في أخيهم بنيامين عند سفرهم إلى مصر: ( لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ )[يوسف: 66]، أُحيط بهم وغُلبوا عليه، ورجعوا إليه من غيره، ويوسف عليه السلام لما قال في محنة امرأة العزيز: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، سُجِن ولبِث في حبسه بضع سنين.
• وفي صحيح الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجلٍ يعُودُه، فقال: (لا بأس، طَهورٌ إن شاء الله)، فقال: “كلا، بل حُمَّى تفور، على شيخٍ كبيرٍ، كيما تُزِيرَه القبورَ”، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فنعم إذًا).
وعند الطبراني وغيره، فقال صلى الله عليه وسلم: (أمَّا إذا أبيتَ، فهي كما تقول، وقضاءُ الله كائن)، فأصبح الأعرابي ميتًا.
قال الشاعر:-
لا تمزحن بما كرهتَ فربما
ضرب المُزَاح عليك بالتحقيقِ..
•مفهوم التشاؤم•
لم يرد لفظ التشاؤم في القرآن الكريم، بل جاء ما يدل عليه في بعض الآيات الكريمة بالمعنى نفسه وبسياقات متنوعة، لذا لا بد أن نبين معنى التشاؤم.

*التشاؤم في اللغة: مصدر شئم، والشؤم: خلاف اليمن، يقال: رجل مشؤوم على قومه، أي: غير مبارك، والجمع مشائيم، وتشاءم القوم به مثل تطيروا به، ويقال: شؤم الدار: ضيقها وسوء جارها، نذير شؤم: علامة وقوع مكروه، ما ينبئ بِشَرٍّ ويبعث على الخوف، والتشاؤم: توقع الشر.

*ثانيًا: المعنى الاصطلاحي.
عرفه الحليمي: بأنه سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، أو هو توقع حدوث الشر أو المكروه من شيء ما تراه أو تسمعه وتتوهم وقوع المكروه به ويكون وجوده سببًا في وجود ما يحزن ويضر، «ويأتي بمعنى تشاؤم الإنسان بشيء يقع تحت المناظر والمسامع مما تنفر منه النفس مما ليس بطبيعي، فأما نفارها مما هو طبيعي في الإنسان كنفاره من صرير الحديد وصوت الحمار فلا يعد من هذا، وأصله في زجر الطير.

ويتضح من المعنى اللغوي والإصطلاحي أن التشاؤم: حالة نفسية تلازم بعض الناس، وتبعث في نفوسهم اليأس وعدم الرضا بقدر الله
و الشؤم في كلام العرب: النحس”، وفي اصطلاح أهل الشرع لا يختلف المعنى كثيراً، فإنه يعني عندهم توقّع حصول الشرّ مطلقاً، والإمام ابن حجر يُفسّر الشؤم بقوله: ” التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق”.
أما التطيّر فهو مأخوذ من الطِيرة بفتح الياء وتسكينها أحياناً، والمقصود به التشاؤم من الأشياء، كما قال ابن منظور في لسان العرب: ” والطيرة بكسر ففتح والطيرة بسكون الياء ما يتشاءم به من الفأل الرديء، وفي الصحاح : تطيّرت من الشيء وبالشيء، واطّير معناه : تشاءم وأصله تطيّر . وقيل للشؤم : طائر وطَير وطِيَرة”، وأما عند أهل الشرع فهو كما عبّر عنه الإمام القرطبي: ” الطِيَرة : أن يسمع الإنسان قولاً ، أو يرى أمرًا يخاف منه ألا يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله”، وجاء في شرح صحيح مسلم للإمام النووي:” والتطير التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي”، ومبنى العلاقة بين كلمتي ” الطيرة والتطيّر” هي العلاقة السببيّة، ووجه ذلك كما قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى : ” التطير هو الظن السيء الذي في القلب , والطيرة هي الفعل المرتب على الظن السيء “، ويفيدنا صاحب الكشّاف باستعمال الطيرة عند العرب في الخير والشرّ جميعاً، ثم غلبة استعمالهم لهذه اللفظة في الشرّ : ” الفأل والطيرة قد جاءا في الخير والشر ، واستعمال الفأل في الخير أكثر، واستعمال الطيرة في الشر أوسع”.

والأصل في لفظة “الطيرة” ما كان يفعله العرب قبل بزوغ فجر الإسلام من عادة زجر الطير، وحاصلها أن المشرك إذا أراد السفر بكّر إلى أوكار الطير فهيَّجها، فإن ذهبت عن يمينه تيامن وتفائل واستبشر خيراً ثم مضى في سفره، وإن ذهبت عن شماله تشاءم، وردّه ذلك عن إمضاء أمره.
و الشؤم تراث ضخم في حياة البشرية كلها، ولكل شعب من الشعوب -كما تحكي كتبهم- تاريخ طويل من التشاؤم؛ تشاؤم بالأرقام كما يتشاءم الإنجليز وغيرهم بالرقم ثلاثة عشر، ويستبعدونه حتى في الطائرات وغيرها.
التشاؤم بالحيوانات، كالقطط السود والكلاب السود.. أو غيرها، أو بالنباتات كما كان العرب يتشاءمون بالسفرجل أو بالسوسن، أو بالأشكال كما يتشاءمون بلون السواد، وهذا نوع من العنصرية في الألوان!!
أو كما يتشاءمون من الأعور أو الأعرج.. أو غيرهم.
التشاؤم من الأسماء؛ حتى إن القلوب المريضة بالتشاؤم قد تقلب الاسم الجميل قبيحًا وتتشاءم به، كما يقال عن ابن الرومي أنه جاءه غلام يدعوه فقال: ما اسمك؟ فقال: إقبال ، فتشاءم وقال: لا أذهب. قالوا له: لم؟ قال: لأن نقيض اسم إقبال وعكسه: لا بقاء!
يتشاءمون من الأجواء.
قـال السمـاءُ كئيبـةٌ وتجهمـا
قلت ابتسم يكفي التجهمُ في السما..
يتشاءمون من الأحلام التي يرونها في المنام؛ فتسيطر على يقظتهم وتؤثر في نفسياتهم وفي قراراتهم.
يتشاءمون من العقبات والعوائق التي قد تعترض طريقهم؛ فإذا وجد الإنسان مشكلةً في بداية عمله أو دراسته أو حياته الزوجية أو سكنه في المنزل الجديد أو علاقته الشخصية مع فلان أو فلان؛ تشاءم منها وظن أن الطريق كله طريق شائك شاق، ونسب الأمر إلى حسد أو عين أو سحر، وأي خلاص أو سعادة لإنسان يحسُّ بأن الشر ممنوح له ينتظره في كل مكان؟

ويقول رسولنا الكريم كذلك: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر».
والطيرة بكسر الطاء وفتح الياء لغة: التشاؤم بالشيء، ومصدره: تطير وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها، والتطير أي التشاؤم بنعيق غرابها، فسموا الشؤم طيراً وطائراً وطيرة لتشاؤمهم بها. التشاؤم سمة للأمم الكافرة: والتشاؤم عادة سيئة لا تصلح لأمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهي أمة التوحيد، بل هو من عادات الأمم الكافرة فيقول ربنا عز وجل في قصة ثمود وتشاؤمهم بنبيهم المبعوث إليهم صالح ـــ عليه السلام: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) (سورة النمل الآية 47) معناه ما أصابكم من خير وشر فمن الله، ومعنى اطيرنا تشاءمنا، وهو في الأصل تطيرنا، فأجابهم الله تعالى فقال: طائركم معكم، أي شؤمكم معكم، وهو كفرهم.
والمؤمن لا يتشاءم وقد نجد في عصرنا الحالي أن بعض الناس يربط حياته ومستقبله باعتقادات وتصورات جاهلية بعيدة كل البعد عن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف صاحب العقيدة السمحاء الفريدة من نوعها، والمتميزة بشمولها وبساطتها ووضوحها، لأنها عقيدة ربانية، أودعها الله تعالى في أرضه لتستنير البشرية بنورها، وتحتمي بعدلها، تلبي رغبات وحاجات وطبائع البشر، وتعطي الفكرة الكاملة عن الكون وحقيقته، وتوضح أي تساؤل قد يتبادر إلى الذهن بخصوص ذلك..
*التشاؤم عند العرب
وتخبرنا كتب التراث الشعري عند العرب عن حالة تاريخية نافرة في التطير وهي حالة الشاعر ابن الرومي، الذي اقترب من الانغلاق. فكانت حياته مضطربة، وخضع للوهم والخوف بسبب ما أصابه من نكبات وويلات وحوادث مأسوية في حياته.

فأصبح يتوقع السوء دوماً، ويعتقد أن الحياة وجود خاطئ، كأن يتشاءم من الأسماء والأشخاص وغيرهما، ويشعر بأنه “منحوس” قليل الحظ.
وفي إحدى قصائده يقول: “
قرَبت رجلاً رغبةً في رغيبةٍ
وأخرَت رجلاً رهبةً للمعاطب..
وينذر بيت الشعر بالتردد والخوف من الإقدام على عمل ما ،فهو كان حالماً يخرج من منزله ويرى امرأة “غير محجبة” يعود أدراجه. فأمضى كل حياته متطيّراً متشائماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى