مفدي زكريّاء واللّغة العربيّة

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام | الجزائر

 

يتعرّض الحرف العربي للتّهميش والإقصاء من حياة النّاس، ويوصف بالقصور وعدم تَـمكّنه من مسايرة التّطوّر السّريع الذي يشهده العالم الـمتحضّر الـمتقدّم، وينعت بالتّخلّف عن مواكبة الاختراعات المتتابعة التي تفرزها مآرب النّاس الـمستجدّة الـمتعدّدة، ويُوصم بالعجز عن تلبية حاجات البشر الآنية.. مع العلم أنّ هذا الحرف حوى كتاب الله، الذي هو القمّة في كلّ شيء. كما قال شاعر النّيل، حافظ إبراهيم:

وَسِعتُ  كتابَ اللهِ لَفْظًا وغايَــــــــةً

 

وما ضِقْتُ  عَنْآيٍ بِهِ     وَعِظاتِ

فَكَيْفَ  أَضيقُ  اليَوْمَ  عَنْ وصفِ آلةٍ

 

وَتَنْسيقِ  أَسْـمـاءٍ  لـمُخْتَرعاتِ

إنّ هذا الحرف حمل للعالم الحضارة، ونقل إليها العلم والمعرفة.. نسي هؤلاء وخاصّة من يحسبون من أبناء الحرف العربي: فكرًا وثقافة ورموزًا، ومسيرًا ومصيرًا، أنّهم هم الذين لم يرتقوا إلى مستواه، ولم يكن لهم من الإدراك العميق والفهم العالي، ومن روح الـمسؤوليّة..ما يؤهّلهم ويرقى بهم إلى درجة إدراك أسراره،والتّفقّهفي ما يحمل من مضامين، وعجزوا أن يَسْمُوا بتفكيرهم ورُؤَاهم إلى معرفة حقيقة الفكر الدي يحمله.. وساروا مع موجة الاستنقاص من كلّ ما هو من مقوّمات الهويّة، والنّيل من قيم الـمجتمع.. فردّدوا مع النّاعقين أنّ لا مكان للحرف العربي في خضم ّتدافع الحضارات، وتطوّر التّكنولوجيا..

 إلى هؤلاء وَجّه شاعر الأصالة وقوّة الشّخصيّة مفدي زكرياء  خطابه سنة 1960م،بواسطة نداءات وجّهها إلى الطّلبة الجزائريّين الـمتعّلمين في تونس، الـمعوّل عليهم رفع لواء الوطن الجزائري بعد تخرّجهم، ومن ضمن ما تحتويه  الأمانة حمايةُمقوّمات الشّعب الجزائري الـمسلم، وعلى رأسها لغته، التي تحوي فكره وثقافته:

واتّقُوا اللهَ في  العُروبَـةِ والفُصْــ

 

  ــحَى، فكمْ  صَوَّبُوا إِليْـهَا النِّبَالاَ

لُغَةُ العــِزِّ والكَرامَــةِ والــمَجْـــــ

 

ــدِ، تَـهَادَى علَى الدّهُورِ اخْتِيالاَ

تتَحَدَّى  العصْرَ  الــجَديدَ، وَتَغْزُو

 

أُفُقَ الـفِكْرِ؛  قُـــــوّةً   وَكَــمـــالاَ 

(بالـمُـسيقَى) أَلْفَاظُهَا عَازِفَـاتٌ

 

تُسْكِرُ الرُّوحَ؛  رِقَّـــــةً  وَجَــمَـالاَ

والــمَعانِي (باللَّانهايَةِ) تَسْـمُو

 

لِوَراءِ  الغُيُوبِ،  تَبْغِـــي انْسِلاَلاَ

كَمْ رَماهَا ذَوُو الـجَهالةِ بالعُقْــ

 

ــمِ؛   سِفاهًا وَخِسَّةً وضَـــــاَلاَ

مَسخُوهَا  وَشَوّهُوهَـا انْتِهاكًا

 

وابْتَغُوهَا سَخَافَـةً وابْتِــــــــذَالاَ

جَهِلُوهَا فَأَنْكَرُوهَـا، وَطُعْمُ الــ

 

ـمَاءِ مُــــــرٌّ، لِـمَنْ يَئِــنُّ  اعْتِاَلاَ

واسْتــَـرَقّ المُسْتَعْمِرونَ عُقُولاً

 

يَـوْمَ شَدُّوا عنِ  البِلادِ  الرِّحـالاَ

باقياتٌ (عُيُونُـهُمْ ) رَاصِــــداتٌ

 

في حِـمانا، تُصْلِي البِلادَ  وَبـالاَ

أنْزَلَتْ بالنُّفوسِوَهْـمَا وَ شَكًّـــا

 

وَأَشَاعتْ  بينَ النّاشِئِينَ انْحِاَلاَ

ذَلَّ شَعْبٌ، لَـمْيتّخِذْ لُغَةَ الأَجْــ

 

ــدادِ  حِصْنًا، وَ رامَعَنْها انْفِصَالاَ

وَعُقُوقُ البَنينِ أَعْظَمُ خَطْــــبٍ

 

يُرْهِقُ  الشّعْبَ  ذِلَّـةً  وَنكــالاَ

( اللّهب المقدّس: 189، 190).

في هذه الأبيات كلّ التّفاصيل عن مقوّم الهويّة الأصيلة (اللّغة العربيّة).. فيها تحليل وبيان وتوضيح لعلاقة أبناء الضّاد بلسانهم الـمبين، لـمن كان قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد. فيها تحليل لنفسيّة الـمهزوم الذي يتخلّى عن لغته، وفيها ا تسجيل لأعمال التّدميريّة التي يقوم بها الشّخص نحو كيانه وشخصيّته؛ بإيعاز وتوجيه ممّن يحارب الإسلام والعربيّة..وبسبب هوانه على نفسه، وانخذاله في حماية شخصيّته..

فيها كشف عن سذاجة من يكون إمّعيًّا ومسلوبَ الإرادة وقليل الفهم والإدراك.. لـما يخطّط له ويُـحاك ضدّ مكوّنات شخصيّته، وما يُدبَّرُ له لفصله عن كيانه وأصالته.. وما يثير البلبلة والشّك والرّيب في حقيقة لسانه..

في الأبيات رسائل وتوجيهات مـمّن عُرِف عنه التّمسّك بأصالته، والاستمساك بِـمقوّماته، والاعتزاز بهويّته، وإكرام شخصيّته..ومّمن له خبرة في معرفة دسائس الـمغرضين، ودرايةٌ بضعفاء النّفوس الـجبناء، الذين لا يَقْوَوْنَ على الثّبات بِـمقوّماتهم ومبادئهم، وممّن هو عليم وخبير بـمن لا يعي نتائج تفكيره غير السّليم، ونظره العقيم السّقيم، ولا يفقه مآلات تصرّفاته الـمنحرفة عن سواء السّبيل، ولا يدرك عواقب تحرّكاته السّاذَجة، ولا يفهم علاقته بقيمه ومبادئه، منها لغته وعاداته وتقاليده.. وهو الشّاعر الصّادق القائل؛ مقدّمًا من نفسه نـموذجًا للرّجل الأصيل، الذي يعرف مسؤوليّته في الـمحافظة على اللّسان العربي الـمبين:

وَخَلّدتُ  من مَــجْدِ  العُروبةِ صَفْحَـــةً

 

رَسَـمْتُ علَى عُنْوانِــهَا وَجْهَ قَـحْطَانِ

وَمِلْءَ  عُروقِي صارِخٌ ؛ دَمُ يَعْــــــــرُبٍ

 

فَأَلْهَـمَنِي  يَنْبُوعُ   يَعرُبَ   تِــبْيَـــانِي

وَهِـمْــــــتُ بأبْناءِ العُروبَـةِ يَافِعًــــــــا

 

أَرَى كُلَّ  أَبْناءِ     العُروبَةِ     إِخْـواني

تَعَلَّقْتُ  بالفُصْحَى، فَأُشْرِبْتُ حُبَّها

 

وَأَرْغَمْتُ    فيها أَنْفَ  مَنْ    يتَحَدَّانِي

(اللّهب الـمقدّس، ص:  320، 321).

هل يمكن أن تشفع هذه الكلمات وهذه الخواطر والـمشاعر للّسان العربي كي يجد من أبنائه برًّا وإحسانًا، وإجادة وإتقانًان واحترامًا وتقديرًا، وخدمة وتطويرًا.. هل ننعاه كما قالت اللّغة العربيّة عن نفسها، على لسان حافظ إبراهيم:

وَلدتُ،  فَلَــمَّا  لَـمْ   أَجِدْ    لِعَرائِسِي

 

رِجَــالاً   وَأَكْفاءً،   وَأَدْتُ   بَناتـــِي

نرجو أن لا يكون هذا الوأدُ، بل يكون معها الوُدُّ،  فنحن لها وُلدُ، لذا فكلّنا لها حندُ، ..

الجزائر يوم الجمعة: 27   من  شوّال  1441ه/19  من  يونيو  2020م.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى