ما أجهش به عيّاش يحياوي قبل أن يموت

عبد الرزّاق الربيعي

من المؤلم أن آخر تواصل لي مع الشاعر الجزائري الراحل عياش يحياوي، كان لتعزيتي برحيل المغفور له السلطان قابوس طيّب الله ثراه، وختم تعزيته بالدعاء “دام عز السلطنة تحت قيادة السلطان هيثم بن طارق الرجل المثقف المحب للثقافة، وللقيم الإنسانية العليا”
تعود علاقتي بالصديق الشاعر، والباحث، والإنسان الجميل
عياش ابن أحد شهداء الثورة الجزائرية إلى مطلع الثمانينات في بغداد أيام مهرجان المربد، وفي إحدى مجاميعه الأولى أهداني نصا عنوانه ” قناع” من وحي نصي” مرايا” المنشور في مجموعتي الأولى ” إلحاقا بالموت السابق” ١٩٨٧ ومازلت احتفظ به لليوم وهو:
“تعطرت بالفأل
كان المساء مواعيد
من عسل وخصور
ملأت جيوبي مناديل
من ورق فاخر
ربطة العنق
الريح ترفعها
فأسير كمثل أمير…
عيون المدينة تشربه
وتحييه زغردة الشرفات
مشطت أسارير وجهي
موسقت وقع الخطى
حسب ذوق المقام
وقللت من عادة البصق
فوق الرصيف
وحين دخلت النوادي السعيدة
منتفخا
بصقت فوق جيبي الفواتير
كذبني لمعان المرايا
وقالت كراسي النوادي:
اطردوه …..
إنه عبد الرزاق الربيعي”
وذات يوم، كنا في البصرة، خلال اقامة مهرجان المربد، وذهب مع مجموعة من الأدباء لزيارة الجنود في جبهات القتال، وحدث أن رصد الإيرانيون العربةالتي نقلتهم، فأطلقوا عليها القاذفات، وكانت المسافة بعيدة، لذا اختبأوا عن مصدر النيران، وتمّ إخلاؤهم، وكنت أنتظره بالفندق قلقا بعد تاخّر عودته مع من معه، وحين عاد كان مرعوبا، ليس من من صوت القاذفات، بل لأنّ احد الضبّاط أخبرهم” لقد أنقذكم الإيرانيون بقاذفاتهم، لأنكم لو اجتزتم امتارا قليلة، لانفجرت عليكم الألغام التي زرعناها!!
وكان معهم الكاتب الكاتب نجمان ياسين، فكتب روايةعن ذلك الحدث!
وبقينا نستذكر تلك الواقعة كلما نلتقي، وقبل سنوات أخبرني أنه عثر على صورة قديمة ألتقطت لنا في الطريق من البصرة إلى بغداد في ” قطار الشعر” وابدو خلالها غافيا متوسّدا كتفه، ووعدني بارسالها لي بعد أن “يعبث بأعصابي”!، وظلّ يعبث بأعصابي، ولم يبعث الصورة!!
ذكريات كثيرة تجمعني به، وكدت مع صديقي عدنان الصائغ
أن نتعرض لمشكلة، عندما كنا ببغداد، بسبب مقال نشره بصحيفة جزائرية كان يعمل بها، ولكن يبدو أن المقال مرّ بسلام، والحمد لله، وصار المقال بعد أن أخبرناه مناسبة للضحك الذي يجمعنا على الحب، والشعر، دائما، وتعزّزت صداقتنا، بعد أن انتقل للإمارات للعمل في جريدة” الخليج” رئيسا للقسم الثقافي، قبل حوالي عشرين سنة، وكنا نلتقي في المناسبات الثقافية، التي أشارك بها في الشارقة، وزار السلطنة قبل سنوات في مهرجان الشعر العماني الذي أقيم في البريمي مشاركا كعضو لجنة تحكيم الشعر الفصيح، استمرت علاقتي به، حتى رحيله أمس بأبوظبي، وكان في الآونة الأخيرة يخطط للعودة إلى بلده الجزائر، ويبتني بيتا،ويفتح مدرسة، ويعود إلى أحضان الطبيعة، كما قال لصديقنا القديم المشترك د.محمد الغزّي، وما إلى ذلك من أحلام حملها معه إلى القبر!
ومن الغريب أن آخر منشور شعري له كان في 2 فبراير الجاري ، مقطع من قصيدة “ما أجهش به قيّوم بن حبارة قبل أن يموت” منشورة في ديوانه “ما يراه القلب الحافي في زمن الأحذية” والنص قديم، ولكن لماذا أعاد نشره هل هو نبوءة شاعر أحسّ بدنو أجله ؟
هذا مايجيب عنه النص :

خديجةُ قولي لأمّك إن الضيوف لدينا
إذا كان عندكُمُ فلفلٌ وطماطمُ أن تذكرونا
ويا خجلي…سوف أطلب بُنًّا وفاكهةً وصحونا
وفي آخر الليل بعضَ الغُرفْ
وأشياءَ من نزوات الترفْ
وأرجوك أن نتزوّج منكمْ
لنُنْجبَ بعض الصبايا وبعض الكراسي وبعض التّحفْ

أرى ما أرى…
لو رأى جبلٌ هولَ ما هالني انتحرا
إبلا تُحسِنُ الطعن في كبدي
وتخون هوادجَها والعُرى
وتزمّ ثقوبَ الفضيحةِ..والقلبُ نجمٌ وهمّي السُّرى
أرى…وأصفّق بالنوح مثل عجوز القرى

يجيْ غرابٌ
له مخلبٌ من إناث الطباع
جناحاه من زغبٍ حامضٍ بالظلام
ومنقاره صخرة خائنه
وفي أرذل العمر يأتي
أزوّجه قمرًا من كروم دمي
***

لقد كذّبتني السواحلُ رملُها وأراملها
وأرى..
أرى وردةً تتسلح بالشوك
أو وردةً تتعطّر بالشوق
كلتاهما من عشيرتنا
والتي عطّرتْ نهدها هربتْ بثياب الخديعة
واللص يتبعها قلِقًا من كلاب القرى وهسيس الخُطى
كنتُ أرقبُ ريق أنوثتها شاحبًا
وعلى ساقها يتسلّق جيشٌ بفيلقه
ويهرول بالخفقان الدجى
فوق قبري تنحنح شيءٌ
سمعتُ له طعنة
ورأيتُ لها صرختين
وحين شكوتُ إلى الحاكم العسكريِّ
توعّدَ أهلي وطالبني بالجنين
كأني الذي كنتُ فوق البلاد أفضّ بكارتها
وأوزّع جنّة عدْنٍ لمن يسمعون الأنين…

أكون أنا.. لو أكون
وطنًا داهمته رياح البحار
وأبناؤه يحرثون المراثي
ويحكون عن نملةٍ كذبتْ في النهار

أكون أنا .. لو أكون
غرابا أتى يتوضّأ من دم أهلي
وأهلي يشنّون حربا على كفر ضفدعةٍ آمنتْ بالتتار

أكون أنا..لو أكون
دمًا قرب أروقة البرلمان يُباع
وأهليَ مختلفون عنِ اسم رصاصة حزبٍ
ستقتلهم في “السفير” وتبعثهم في “المنار”

أكون أنا…لو أكون
ضباعًا تكدّد ثغرَ عجوزٍ من الجنّ
قامت تصلي إلى ربّها سَحَرًا
والذين أقاموا الولائم في جسمها نائمون

أكون أنا .. لو أكون
ترابًا سأحمله للقيامة
يشهد أن بلادي التي في الصدور
سواها بلادي التي في السطور
وأهليَ جاءتهُمُ عنزةٌ في الظلام
فكُلٌّ على كلِّهم غاضبون”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى