مقال

التقديم والتأخير في كلام العرب

تقديمُ ما حقُّه التأخيرُ لا يفيد القصر والحصر كما اشتهر

بقلم: طاهر العلواني

بيان ذلك أن تعرف أن ههنا ثلاثةَ أمور:

أحدها: أن الكلام المفيد لا يكون إلا باسمين أُسند أحدهما إلى الآخر، أو اسم وفعل مُسند إلى هذا الاسم. ثم إذا احتيج إلى فضلة يتم بها الكلام جيء بها، وإلا كانت حشوًا.

الثاني: أن المتكلم يقصد في كلامه إلى فائدة، وهذه الفائدة لا تخلو، أما أن تكون الإسنادَ كله، أو المسند إليه، أو المسند، أو متعلقات الفعل.

الثالث: أن العرب تُقدم في الكلام ما كانت العناية به أولى وأهم عند المتكلم. وهي الفائدة من الإخبار.

فإن كان المتكلم يقصد إفادة الإسناد، جاء بالكلام على ترتيبه؛ لأنه ليس ههنا شيء أولى من غيره؛ من حيث إنه أراد الإخبار بحصول النسبة بين المسند إليه والمسند، فيقول: زيد قائم، وجلس عمرو.

وإن أراد إزالة الإبهام عن المسند إليه، قدمه وإن كان حقه أن يتأخر، فيقول: زيد قام، وعمرو جلس، ويقول: زيد قائم، فيبقّيه كما هو.

وإن أراد رفع الإبهام عند السامع عن المسند، قدمه وإن كان حقه التأخير، فيقول: قائم زيد، ويقول: قام زيد، فيبقّيه كما هو.

وإن أراد إزالة الإبهام عن متعلقات الفعل، قدمها، فيقول: زيدا ضربت، وفي الدار رأيت زيدا.

مثال:

كأن يكون لك إخوة، وقد سافر أحدهم، وأنت لا تعرفه، ولكن تعرف أن هناك سفرًا كان من أحد إخوتك، فيأتيك بعضهم فيقول: زيد سافر، فيقدم موضع الفائدة من الإخبار؛ بدليل أنك لو سألت، قلت: مَن سافر؟ فاسم الاستفهام هو المبهم المراد تحصيله، فلذلك كان له حق الصدارة في الكلام، و (سافر) معلوم عندك، فأخّرَه، ويدلك أيضًا أنه يقال لك في الجواب: زيد، فيقتصر على موضع الفائدة.

وفي حال أخرى، أن يكون إخوتك حولك إلا زيدًا، وتريد أن تعرف حاله، فيقول لك إخوتك: سافر زيد، فيقدمون السفر هنا؛ لأنك تريد تعيين الحال التي عليها زيد؛ ويدلك على ذلك أنك لو سألت لقلت: كيف زيد؟ فيقال: سافر، فاستفهمت بكيف التي لتعيين الحال، ويُقتَصر في الجواب على موضع الفائدة.

مثال:

ومن ذلك قوله عز من قائل: “قل أفغيرَ الله تأمروني أعبد”، فقدم غيرَ وهو مفعول تأمروني؛ لأن الإنكار ليس موجها على العبادة من حيث هي عبادة، وإنما من حيث هي عبادة غير الله.

وقوله تعالى: “إياك نعبد وإياك نستعين” فقدم المفعول، والأصل نعبدك؛ لأن الخبر سيق لبيان المعبود من هو؟ لا لبيان العبادة.

وقوله تعالى: “والسارقُ والسارقة فاقطعوا أيديهما” فيه بيانان:

أحدهما: أن الكلام كان: واقطعوا أيدي السارقِ والسارقة، ثم لما كان المراد بيان حكم السارق والسارقة خصوصًا قدمهما في الكلام، فكان حقه: والسارقَ والسارقةَ فاقطعوا أيديهما، على معنى: أهينوا السارقَ والسارقةَ فاقطعوا أيديهما، كما قال الشاعر:أثعلبةَ الفوارسَ أم رياحًا**عدلت بهم طهية والخشابا.

ثم اختير رفع السارق والسارقة؛ لأن الرفع يكون للثبوت، والنصب يقع على المتجدد، فدل الرفع على أن حدّ السرقة لن ينسخ، وأنه ماض إلى يوم القيامة.

الثاني: هنا قدم السارق على السارقة ، وفي آية النور ” الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة” قدمت الزانية على الزاني، وما ذاك إلا لأن الاهتمام بالسارق أكثر من الاهتمام بالسارقة، وفي النور كان الاهتمام بالزانية أكثر من الاهتمام بالزاني.

بيان ذلك: أن السرقة يحتاج فيها إلى جرأة وقوة قلب، وأغلب النساء طبعهنّ الجبن والخوف من أحقر الأشياء، فلذلك كان أكثر السُّرّاق من الرجال، فكان الاهتمام والعناية به أكثر، فقدم.
وأما في حد الزنا، فإن أفجر الرجال لا يستطيع الاقتراب من امرأة، إلا إذا رأى منها ميلًا في الكلام وخضوعًا بالقول أو إبداء زينة، فهي التي تجر الرجل جرًّا إلى تلك المعصية، فلذلك أمر الله الرجال بغضِّ أبصارهم وحفظ فروجهم، وأمر النساء بهذين، وبعدم إبداء الزينة، وعدم الخضوع بالقول، وستر عوراتهن كلها، والقرار في بيوتهن. ثم انظر إلى قوله تعالى: ” فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض” فبين أن طمع الرجل في هذه المعصية نتيجة عن خضوع المرأة بالقول. فقدمت الزانية لأن المعول عليها في سد الذريعة إلى الزنا، فكانت أهم وأولى بالعناية من الزاني.

وقوله تعالى: “إنا أعطيناك الكوثر”، كان أصل الكلام: أعطيتك الكوثر، ثم قدم الفاعل إلى موضع الابتداء فصار أنا أعطيتك الكوثر؛ لإفادة الاهتمام بالمُعطي، ثم جُمع للدلالة على عظم الربوبية، ثم أُكّد بإنّ؛ لأن المراد به الرد على العاص بن وائل بقوله: إنه أبتر، فقيل له صلى الله عليه وسلم: كيف يقال: إنك أبتر وأنا الذي أعطيتك؟ فكان الاهتمام أصلا ببيان المُعطي وأنه الكريم واسع العطاء لأوليائه.

ولا يكون التقديم والتأخير للقصر والحصر إلا بقرينة من خارج، نحو “إياك نعبد وإياك نستعين” فالذي يعبد الله لا يعبد غيره؛ فذاك ناقض للعبادة من أصلها، وكذلك قول الأعرابي: إياك أعني واسمعي يا جارة، فإنه قدمها للاهتمام بها. والقصر مفهوم من قرائن الحال لا من التقديم والتأخير.

هذا معنى التقديم والنكتة منه عند سيبويه وعبد القاهر الجرجاني والزمخشري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى