قلْ لي ماذا تسمع؟ أقلْ لك من أنتَ

أحمد حسن | لندن – بريطانيا

الفنون بشكل عام والموسيقى بشكل خاص هى أحد أدق مقاييس أذواق وميول الأفراد والشعوب على حدٍ سواء، ذلك لأنها من أرق وأعذب أنواع الفنون وأسرعها تاثيرا على الحالة المزاجية والنفسية لمن يستمع لها.

تطور هذا الفن عبر الزمان حتى وصل الى تأليف مقطوعات موسيقية ذات أبعاد فلسفية تبعث على التأمل. وذهب البعض بعيدا فى تفسيرها وشرحها إلى وصفها بأنها تحكى قصة حياته أو تصف أحداث معينة قد حدثت له كمقطوعات بيتهوفن و شوبان و موزار وتشايكويفسكى و غيرهم. وقد عُرف عن هتلر مثلا إنه كان يعشق الاستماع لموسيقى فاجنر وكان يقول إنها تلهمه بأفكار أكثر من أي شيء آخر.

في منطقتنا العربية، وفي مصر تحديدا، فقد كان التطور الحقيقى للموسيقى فى العصر الحديث على يد سيد درويش، فقد خلص الموسيقى العربية من النمط التركى القديم القائم على التكرار الرتيب والموشحات الطويلة إلى أغاني أسرع إيقاعا وأرق على مسامع الناس وكانت عبقريته فى تطويع هذه الألحان الجميلة لإبداع أغاني للطبقات الكادحة في ذلك الوقت، فكانت أغاني الجرسونات والعاملين والفلاحين وغيرهم، فقد كان درويش منهم ويشعر بهم ويقدر ما يكدحون من أجله، ويعلم أنه يستطيع بفنه الجميل أن يسرى عنهم في أعمالهم الشاقة، ويطربهم. كان لسيد درويش أيضا دوره الوطني في أغاني وطنية خلدها التاريخ و لا أبلغ من ذلك كالنشيد الوطنى المصرى حاليا ثم جاء عبد الوهاب ومزج الموسيقى الغربية بالشرقية فى خليط غاية فى الروعة و الرقى و لانه كان قد تربى على يد امير الشعراء احمد شوقى فقد كان اختياره للاشعار التى يلحنها و يعنيها فى منتهى الدقة وصاغ لنا عبد الوهاب قصائد ساحرة وبالتوازى معه كانت أم كلثوم تسير على نفس الطريق ..لقد كان لهؤلاء الفنانين العظماء رسالة يقدمونها من خلال ابداعاتهم الفنية  كتثقيف الشعب المصرى الذى اغلبه لا يجيد القراءة و الكتابة و لكنه حاد الذكاء بالفطرة ويعشق فنهم.

كانت القصائد التى تسمو بالروح الوطنية و اللمحات التاريخية المشرفة وكانت الأغانى التى تقوى الوازع الدينى وتبعث على التامل و الخشوع وكانت الأغانى الرومانسية فى كثير من الأحيان فى محاولة لعلاج السلبيات التى تنتشر فى مجتماعتنا الشرقية و كل هذا فى إطار من الفن الساحر والنغمات الرقراقة.. لقد قالت السيدة سعاد الصباح الشاعرة الكويتية الكبيرة فى وصفها الرائع لأغنية الأطلال وعن البيت الذى تقول فيه سيدة الشرق:

 أعطنى حريتى أطلق يديا *** إننى أعطيت ما استبقيت شيئا

إنها كانت تسمع صرخة كل امراة عربية فى وجه الرجل المتسلط المستبد ثم كان هناك الغناء الشعبى, له لونه وطعمه الجميل ومحمد رشدى وعبد المطلب وقنديل و غيرهم و أشعار الأبنودى الأصيلة المفردات .. كيف اختفى كل هذا وحل محله هذا التلوث الذي نسمع عنه الآن! قطعا لا نسمعه، لكنه انتشر كالنار في الهشيم بين فئات الشباب، وأصبح مثيراً للغثيان ويبعث على التغييب والتجهيل، بل ويدعو أحيانا للجريمة!

لقد سمعت الأبنودى (رحمه الله) فى أحد البرامج متحسرا وهو يقول: عندما أردت أن أعاتب الحبيب فى إحدى الأغاني قلت “ليه وإنت تحس الشوق أكتر منى وقلبك عطشان” كيف أسمع اليوم أن أحدهم يقول مخاطبا حبيبته “: قوم أقف وانت بتكلمنى” … لا أتصور ماذا كان سيقول الخال لو سمع اليوم “وشربت خمور وحشيش”

القاعدة تقول إن العملة الجيدة تطرد العملة الردئية وأرى أن أفضل ما يمكن أن يواجه هذا الطوفان من التلوث هو دعم الفن الراقي الهادف الذي يسمو بالذوق العام، والبحث عن المواهب الحقيقية واكتشافها، مع الاهتمام بالجديد والإبداع، وتقديمها للناس بشكل مناسب لروح العصر. أما المنع والحجب فلن يكون هو الحل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى