برنارد شو يزور ستالين تحت شعار عدو عدوي
فاضل الغزي | العراق
هل هذا نموذج لـ “الحمقى النافعين” أم صاحب قضية حقيقية ملحة؟
كان جورج برنارد شو مؤيداً بقوة للثورة الروسية منذ اندلاعها.. ومن أقواله: “كنت أعتقد أنني سألتقي فلاحاً روسياً، فإذا بي اكتشف فيه سيداً مهذباً من جورجيا”، كان هذا واحداً من التعليقات التي أطلقها الكاتب جورج برنارد شو إثر عودته من موسكو التي زارها عام 1931، كما اعتاد أن يفعل مثقفون كبار آتون من أنحاء العالم، ويكون الجزء الأهم من زيارتهم لقاء الزعيم ستالين الذي كان في حاجة إلى مثل تلك المقابلات، بعدما ساءت سمعته في العالم جراء ممارساته السلطوية القمعية.
لعل الغريب في أمر شو، الذي عُرف دائماً بكونه ذلك الكاتب الساخر الذي يجرّب سلاطة لسانه وقلمه على كل الذين يلتقي بهم، أنه إثر الزيارة الموسكوفية سار عكس التيار. فإذا كان العدد الأكبر من المثقفين الغربيين يعودون من الزيارة ساخطين غاضبين متراجعين عن دعمهم موسكو وزعيمها، ها هو شو يعود راضياً مطمئناً مشيداً بستالين و”تجربته” من دون قيد أو شرط.
حين حيّر شو المراقبين
الحقيقة، أن ذلك الموقف كثيراً ما حيّر المراقبين، تماماً كما كان حيّرهم قبل ذلك بسنوات موقف لا يقل غرابة و”فرادة” له حين أبدى إعجاباً غير محدود بـ”الزعماء” الأوروبيين الثلاثة: ستالين، وهتلر وموسوليني، كونهم نموذجاً للمسؤولين الذين “يفنون حياتهم في سبيل شعوبهم”.
يومها، أثار هذا القول ضجة حتى في صفوف الاشتراكيين الفابيين من رفاقه، لكن كان ثمة بين المراقبين من اعتبروا الموقف معبراً ليس عن إعجاب شو بالديكتاتوريين الثلاثة بل عن كراهيته الطبقة الحاكمة في بلاده البريطانية، التي كان كإيرلنديّ، يعتبر مقارعتها “المهمة الأولى لكل إنسان شريف”، ولما كان كل من زعماء الاتحاد السوفياتي وألمانيا وإيطاليا يتولون تلك المهمة، سيقف شو إلى جانبهم!
صحيح، أن موقفه التالي المؤيد ستالين بصورة مطلقة فُسّر انطلاقاً من هنا، لكن الأمر بدا مختلفاً، كأنّ شو يقف إلى جانبه بكل قوة وصدق. وهو أمر لم يحاول تفسيره أو تبريره، مكتفياً بالقول، كل ما في الأمر أنه لم يشأ الموت قبل قيامه بتلك الزيارة إلى بلد تعجبه تجربته السياسية والاقتصادية والشعبية، ولا يجد غضاضة في سياسة زعيمه الذي بدا له “مثالاً كاملاً عن المثقف حين يخدم بلاده بكل نزاهة”!
كاتب مخلص لمبادئه
لا شك في أن هذا الكلام أطرب سيد الكرملين وجعله راضياً كل الرضا عن ذلك “الكاتب العالمي المخلص لمبادئه، الذي لا يمكن أن يقع في فخ دعايات الإمبرياليين، مثل كثر من مثقفي البورجوازية الصغيرة” كما قال، ويعني أولئك الذين كانوا يُسمّون “رفاق درب”، فيتوجهون إلى موسكو، متفائلين ليعودوا متشائمين.
أشاد شو بستالين وتجربته عقب زيارته موسكو عام 1931
مهما يكن، من المعروف أن جورج برنارد شو كان منذ اندلاع الثورة الروسية عام 1917 مؤيداً بقوة لها من دون أن يكون أو حتى يرغب في أن يكون شيوعياً. وكان في ذلك الحين من محرّكي شعار “ارفعوا أيديكم عن روسيا” الموجه إلى الدول الغربية التي دشّنت تكتلاً لدعم الروس البيض في معركتهم ضد البولشفيين الحمر. ودائماً ما اعتبر شو انتصار هؤلاء الأخيرين انتصاراً شخصياً له. ومن المعروف أنه روى تلك الحكاية لستالين الذي قابله مبتسماً بتصفيق حمل أكثر من تحية.
لا مجاعة في بلاد السوفيات!
إذن، بلحيته الكثة وصلعته اللامعة وابتسامته الساخرة، كان منظر جورج برنارد شو في حد ذاته كافياً لإثارة الذين ينظرون إليه، سواء كانوا يدركون من هو، أو يجهلون كل شيء عنه، وهو الكاتب اللاذع الذي كان أدبه مقروءاً من العالم كله في ذلك الحين. من هنا، لم يكن الرجل بحاجة إلى أي تصرف استعراضي حتى يلفت الأنظار.
مع هذا، لم يتوانَ وهو يجتاز الحدود بين بولندا والاتحاد السوفياتي في القطار، عن إمساك ما كان في حوزته من طعام متبقٍ ورميه من النافذة، ملتفتاً إلى مرافقيه قائلاً لهم: “روحوا إلى الغرب وقولوا له إنني رميت ما بحوزتي من طعام وأنا أدخل الأراضي السوفياتية، لأؤكد أن لا مجاعة، وكل شيء متوافر في هذا البلد الذي يثير إعجابي”.
فالحال، أن أخبار المجاعة في الاتحاد السوفياتي كانت تشغل أعمدة الصحافة في العالم كله، لكن جورج برنارد شو أصرّ في ذلك اليوم على أن ذلك ليس أكثر من “دعاية بورجوازية ضد بلد الطبقة العاملة الأول، وضد زعيمه ستالين”.
باختصار، كان شو معجباً بستالين، حتى قبل أن يصل إلى موسكو، ويجتمع به في 29 يوليو (تموز) 1931، خلال تلك الزيارة التي زادته إعجاباً. فالرجلان خلال الحديث بينهما بدَوَا متفاهمين على طول الخط. بالنسبة إلى شو لا مجاعة في هذا البلد، ولا قمع ولا اضطهاد لبريء.
أما حين سئل عن أعمال السخرة التي يقوم بها ملايين العمال، فكان جوابه: “بالعكس إنني أتمنى أن يفرض نظام السخرة في بريطانيا أيضاً”. فهل كان شو مازحاً أم جاداً؟
ما الذي قاله لينين؟
كل الدلائل تشير إلى أنه كان جاداً. ولو كان هذا صحيحاً، لكان البريطانيون المثقفون الذين رأوا في مجال تعليقهم على زيارة شو موسكو وما أدلى به من تصريحات، إنه (أي شو) جعل من نفسه المثال الصارخ على ما كان لينين يصف به بعض المثقفين الغربيين بأنهم “حمقى نافعون”
كيف وقع هاينريش مان ضحية شهرة أخيه وسطوة الفن السابع؟
أين صارت تلك الرواية التي أعلنت بدء انهيار الاتحاد السوفياتي؟
فن غوستاف كليمت على ضوء المكتشفات الفرعونية الجديدة
المثقفون الذين كان لينين يعنيهم، هم الليبراليون الذين كانوا يساندون الثورة البلشفية، ضاربين الصفح عن عيوبها، وها هم الآن يساندون الاتحاد السوفياتي، وجورج برنارد شو من بين هؤلاء.
بالنسبة إلى شو، كانت معركته الرئيسية ضد البورجوازية البريطانية، ويرى أنها تجمعه مع ستالين، مع أنه قادر على مهادنة كل أعدائه، باستثناء تلك البورجوازية.
من هنا، حين توجه شو إلى الاتحاد السوفياتي زائراً ليستكشف ذلك “البلد – المعجزة”، كان ينطلق كما يبدو من مفهوم “عدوّ عدوّي صديقي”، لذلك كان في وسعه أن يغض النظر عن كل ما يراه من عيوب، وأن يؤكد لمن يلتقي به، أن هذا البلد يختلف كلياً عن الصورة التي تحاول الصحافة البورجوازية أن تروّجها.
متعب لكنه صادق
مهما يكن، فإن جانباً آخر في شخصية شو، دفعه ليبدي كل ذلك التعاطف “مع أكبر تجربة اشتراكية” تتحقق في العالم حتى ذلك الحين. فهو بالفعل كان اشتراكياً، سبق له أن وضع دراسات عدة عن الماركسية ضمّت إلى الكتاب الإنجليزي الشهير الذي خاض في المسألة الاقتصادية، “دراسات فابية”.
من هنا، لم يكن غريباً منه، أن يُبدي تلك الحماسة للتجربة السوفياتية، خصوصاً لجوزيف ستالين الذي التقاه في حديث خاص جرى بينهما طوال أكثر من ساعة، تباسط فيه الرجلان، وعند ختامه قال ستالين عن مؤلف “الأسلحة والإنسان” إنه “متعب، لكنه مخلص وصادق”، فيما قال شو عن ستالين: “إنني شديد الإعجاب بهذا الجيورجي الذي كان بإمكانه أن يكون ابناً غير شرعي لكاردينال أرستقراطي”.
“حين يتحقق السلام”
يقال إن ستالين أعجبته هذه الملاحظة وظل طوال سنوات يرويها في مجالسه الخاصة.. وهنا لا بد من أن نذكر أن جورج برنارد شو، حين زار ستالين، لم يكن وحده بل كانت ترافقه سيدة المجتمع الليدي أستور، التي لم تُعرف بأي تعاطف مع ستالين، أو مع التجربة السوفياتية. ومع هذا قامت بالزيارة لأنها، على حد ما قالت قبل ذلك، أرادت أن تقول رأيها لستالين “بكل صراحة”.
بالفعل، ما أن التقته حتى التفتت إليه وسألته: “متى يا سيدي الرئيس ستتوقف عن قتل الناس بالطريقة ذاتها التي كانت تجري أيام القيصر؟”، ويبدو أنه كان يتوقع منها ذلك السؤال، إذ ما إن تفوهت به، حتى قال لها مبتسماً: “حين يتحقّق السلام”.