شاهد معي.. فيلم دمشق حلب لتلامس الوجع الإنساني وانتصار الحياة

بقلم: علي جبار عطية

    يكفي أن يرد اسم الفنان دريد لحام في عمل ليحظى بالمشاهدة، فكيف إذا اقترن بمخرج كبير مثل باسل الخطيب؟ إذ إنَّ كلا الفنانين الكبيرين بارعٌ بإنجازاته الدرامية.
فبخطىً ثابتة يمضي المخرج باسل الخطيب في معالجاته السينمائية الواقعية الجمالية منذ أول أفلامه الروائية الطويلة (الرسالة الأخيرة)/١٩٩٨م، و(موكب الإباء) /٢٠٠٥م، و(مريم)/٢٠١٢م، و(الأب)/٢٠١٥م و(الأم)/٢٠١٥م، وسوريون/٢٠١٦م، وحتى فلمه الأخير (دمشق حلب) /٢٠١٨م، ففي أغلب أفلامه ينحو نحو المدرسة الواقعية، ولا غرابة في ذلك فهو منتمٍ إلى المدرسة الروسية العريقة في تناولها ومعالجاتها الاجتماعية والإنسانية والتاريخية التي تعود بدايتها إلى سنة ١٩٠٨م.
كذلك يسير الفنان الذكي دريد لحام على الطريق الذي اختطه لنفسه منذ سنة ١٩٨٤م بفلم (الحدود) بشخصية (عبد الودود التايه) المواطن المغلوب على أمره بعد أن أضاع جواز سفره على الحدود المفتعلة بين البلاد العربية.
    أدى دريد لحام قبل هذه الشخصية أدواراً كوميدية خفيفة الظل في أفلام سينمائية ضمن موجة الأفلام الجماهيرية السائدة وقتها في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي من حيث الموضوع والمعالجة،إبتداءً من فلم (عقد اللؤلؤ)/١٩٦٤م بشخصية (غوار الطوشة) التي عُرف بها في المسلسلات التلفزيونية الناجحة (فقاقيع)/١٩٦٣م، و(مقالب غوار)/١٩٦٨م، و(حمام الهنا)/١٩٦٨م، و(صح النوم)/١٩٧٢م، و(ملح وسكر)/١٩٧٣م و(وين الغلط)/١٩٧٩م،و(وادي المسك)/١٩٨٢م وغيرها.
كما أنَّ شخصية (غوار الطوشة) رافقته حتى في عددٍ من مسرحياته الممتعة منها :(عقد اللؤلؤ)/١٩٦٤م، و(مسرح الشوك)/١٩٦٧م، و(ضيعة تشرين)/١٩٧٤م ، و(غربة)/١٩٧٦م، و(كأسك ياوطن)/١٩٧٩م، و(شقائق النعمان) /١٩٨٧م، و(صانع المطر)/١٩٩٢م /، وغيرها. كرس نجاحه اللافت بهذه الشخصية حتى عُرف بها بدلاً عن اسمه في عددٍ من الأفلام السينمائية ، لكنَّه استطاع أن يتجاوزها ليجسد شخصياتٍ واعيةً تجمع بين الجدة والطرافة، والنقد السياسي والاجتماعي اللاذع بلغةٍ رشيقةٍ كما في شخصية (عزمي بيك) في فلم (التقرير) /١٩٨٦م، وشخصية (ودود) في فلم (كفرون)/١٩٩٠م، وشخصية (ودود) في فلم (الآباء الصغار) /٢٠٠٦م، وشخصية (الشحاد) في فلم (سيلينا) /٢٠٠٩م، وصولاً إلى شخصية (عيسى عبد الله) في فلم (دمشق حلب) /٢٠١٨م.
   فنحنُ إذن أمام عمل سينمائي متقن يأتي بعد سلسلة من الأعمال السينمائية المختلفة لفنانين صقلتهم التجارب، فأتقنوا اللغة السينمائية،وعبروا عنها خير تعبير.
    يتناول هذا العمل الذي كتب السيناريو له الكاتب تليد الخطيب المأساة السورية والعربية والربيع العربي المزعوم بأسلوب هادىء، ومن دون ضجيج، ويدين الحرب والإرهاب، لكنَّه ينتصر في النهاية للحياة.
   يبدأ الفلم بمحاولة انتحار شيخ محبط بدعوى عدم جدوى الحياة لكنَّ المذيع الحكيم عيسى عبد الله (دريد لحام) يحتوي الموقف، وينقذ المنتحر، وينصحه بالقول: ( أنتَ لا تعيش لنفسك بل تعيش لغيرك).
  يشعر المشاهد بقرب الشخصية المحورية، عيسى منه، فيدخل القلب من دون استئذان (لاحظ دلالة الاسم) فهو البلسم والمعالج، والمأوى،بل إنَّ الدور مفصل له تماماً، ولا يمكن أن يؤديه غير دريد لحام بالاتقان نفسه، فإذا غاب عيسى عن المشهد لضرورة درامية فإنَّ القلق يصيب المشاهد ويفتقده !
مهارة عيسى، وحكمته، وحلوله العملية تظهر في أسلوبه حين تواجه ركاب حافلة الرحلة من دمشق إلى حلب مشكلات تتطلب تدخله، ومن ذلك الوقوف بقوة ضد تهديد رجل يريد أخذ ابن أخيه المتوفى من أمه بالقوة، وكذلك في مساعدته عروسين على الوصول إلى قاعة الفرح بعد تعطل السيارة، أو استماعه إلى رفيقته في الرحلة رفاه (صباح الجزائري) التي تريد أن تقضي آخر أيامها في حلب مختارةً الرحيل عن هذا العالم على آلام العلاج الكيمياوي .
  وبمناسبة (رفاه) نتذكر سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والأعمال الثنائية الناجحة لدريد لحام وصباح الجزائري فيلامسنا الحنين، ويعيدنا هذا الفلم إلى تلك السنوات المشرقة درامياً وإنسانياً !
المفارقة أنَّ المذيع المخضرم عيسى عبد الله لا يثيره التفجير الإرهابي الجبان بقدر ما يثيره عدم لفظ مذيع الأخبار لـ (لام التعريف) في صفة (جبان) إذ إنَّ المذيع لفظ حرف الجيم كحرف شمسي لا قمري ! وكذلك يتوقف عند سائق السيارة في محطة وقوف السيارات وهو يبلع حرف (الحاء) من مناداته على ركاب مدينة (حمص) !
  ثمة مفارقات أُخرى: انتحال معلم قديم صفة أمنية لقضاء بعض مصالح الناس لأنَّ شكله يوحي بذلك، واستجواب عيسى في إحدى الحواجز الأمنية؛ بدعوى أنَّ اسمه مطلوب لخدمة الاحتياط !
يوجِّه عيسى بهدوء إدانةً لمنظومة من القيم والعلاقات ، فلا الزمان زمانه، ولا الناس ناسه، وحين يدرك هذه الحقيقية يقر بأنَّ إيقاع الحياة يمضي على وفق هذه القيم شئنا ذلك أم أبينا.
في رحلة السفر من دمشق إلى حلب (تبلغ المسافة ٣٦٠ كيلومتراً تقطع براً بنحو أربع ساعات)، تتعطل السيارة، وهنا ننتبه إلى تقارب زمن حدوث القصة مع الزمن السينمائي فأحداث الفلم تجري في يومٍ، وأغلبها ممكنة الوقوع : امرأة على وشك الطلق، ومغنية شابة تقصد حلب لإحياء حفلة، ومذيع شاب يدعى جلال (عبد المنعم عمايري) يحاول أن يطور عمله،وعيسى الذي يروم زيارة ابنته والاطمئنان عليها.
حكايات كثيرة في حافلة تجمع فئاتٍ من المجتمع الممزق بالحرب، والمصر على الحياة برغم كل شيء.
من علامات الوفاء يتذكر عيسى فتاةً مسيحيةً كان يحبها في الجامعة فيبحث عنها بين القبور، وحين يُسأل عن ذلك : لماذا لا تبحث عنها بين الأحياء يجيب : ( أنا أعرف حظي فكل الذين أحبهم ماتوا) !
وحين يجدها تعيش على الذكريات لم يستطع أن يبوح لها بحبه مع أنَّ رفيقته في الرحله رفاه تقول له : نحنُ في عمر يمكننا أن نبوح فيه عن مشاعرنا لكنَّه يعجز عن ذلك، لأنَّه ينتمي إلى جيل مازال متمسكاً بتقاليده في التلميح لا التصريح !
أجمل ما في الفلم نهايته التي تحبس الأنفاس فحين يصل عيسى إلى الزقاق الذي تسكن فيه ابنته يجد حقلاً من الألغام يحول بينه وبين الوصول إليها، لكنَّ إصراره على الحياة يدفعه بقوة إلى المضي إلى إمام فلابدّ من مغامرةٍ لنحيا، وكان له ما أراد،وبذلك يكون الفلم قد لامس الوجع الإنساني، وأدان الحرب وآثارها، وأعطى رسالةً واضحةً مفادها أنَّ إرادة الحياة هي التي يجب أن تستمر برغم كل شيء.
*عُرض الفلم مساء السبت الموافق ٢٠٢٢/٦/٣م في افتتاح أسبوع الفلم السوري على المسرح الوطني ببغداد،مدة الفلم ١١٦ دقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى