الانطباع النفسي في نقد الشعر (4-5)
الناقدة والشاعرة ثناء حاج صالح / ألمانيا
بعد أن تحدثنا سابقا هنا عن النتائج المتوقعة لتشكل انطباع إيجابي قوي عند ناقد النص الشعري، نتدرج للحديث عن النتائج المحتملة للانطباع النمطي ( العادي) ، وهو انطباع أقل عمقا في تحريك كوامن النفس مما سبقه .ونحكم مبدئيا بأنه يسبب إزعاجا طفيفا للقارئ المتذوق سواء أكان ناقدا أو لا .وقد تتجلى استجابة القارئ تجاهه بنفور يمنع من متابعة القراءة باعتبارها تضييعا للوقت أو يسمح بمتابعة القراءة مع التضجر والملل إن كان القارئ صبورا .
ويتميز النص الشعري الذي يشكل هذا الانطباع باعتماده على التراكيب اللغوية الإنشائية التقريرية سطحية التعبير مكررة السكب . والتي غالبا ما يوصف النص الشعري بسببها بأنه نظم لا شعر . فالصور الشعرية تكون قليلة العدد، وإن وجدت فإنها تتضمن مثيرات جمالية نمطية تفتقد لعنصري المبالغة والتفرد ، فافتقادها لعنصر المبالغة يؤثر بشكل مباشر في مستوى توهج العاطفة في النص ، وافتقادها لعنصر التفرد أو الابتكار يؤثر في التشكيل الفني للصور الشعرية التي تبدو ضحلة الخيال عديمة الإدهاش وكأن القارئ قادر على التنبؤ بها . وغالبا ما تعاني من عدم الإتقان في التعامل مع الرمز والدلالات البعيدة للألفاظ لعدم استخدامها أدوات البلاغة والبيان بما يكفي .
في الشعر إن لم يتخل العقل عن قوانينه المألوفة لرؤية الكون عند الشاعر والقارئ معا فقد فشل كلا الطرفين في تمثل الشاعرية .وفي الشعر ينبغي على الشاعر أن لا يترك فرصة لانفصال الصورة الشعرية عن العاطفة ، فمضمون الصورة الشعرية ليس فكرا مجردا باهتا ، بل هو عاطفة ممتلئة. و المعاني النفسية كلها معان عاطفية يتم تكثيفها من قبل الشاعر في صور شعرية قوامها المجاز والبلاغة باعتماد التشبيه والاستعارة والكناية . تلك هي المثيرات الجمالية التي تتوجه إلى ذلك الجزء من عقل القارئ الذي يختص بتنظيم الخيال تنظيما غير مسبوق يتاح له فيه بهجة ولذة اكتشاف العالم اكتشافا عاطفيا جماليا ، فأيما علاقة عادية بين كائنات النص الشعري لن تجلب معها تلك اللذة للقارئ إلا إذا كشفت له عن سر عاطفي أو جمالي مميز،و تلك المثيرات التي لا يكون القارئ قادرا على التنبؤ بها هي التي تثير فضوله بسبب جدتها وهي ما يجعل القارئ أكثر استغراقا و إمعانا في استشفافها .أما المعاني غير العاطفية فهي دخيلة على الشعر تحبط فيه الخيال عند الشاعر والقارئ معا . وإذا أراد الشاعر التعبير عنها فعليه أن يتعاطف معها بتعامله معها كقضايا نفسية خاصة به . فإن لم يتمكن من ذلك فهو بالتأكيد لن يتمكن من إثارة إعجاب القارئ المتذوق ليسبب له الهزة النفسية التي ستسلبه لبـّه وتستحوذ على كامل انتباهه بتشكيل الانطباع القوي الذي يثير الرضا عن النص .
تكون الاستثارة الناتجة عن الانطباع العادي ضعيفة سطحية آنية ما تلبث أن تتلاشى سريعا بعد قراءة النص دون أن يكون لها تحريك مكنونات اللاشعور العميقة من التجارب الانفعالية الجمالية السابقة ، وهكذا فإن القارئ مازال حراً في اتخاذ قراره أيتابع القراءة أم يتوقف عنها قبل انتهاء النص . والنصوص التي قد تثير الملل هي أغلبية ما ينشر من النصوص الشعرية ، ونصفها بأنها نصوص حيادية فاترة جماليا ، لأن معدلات الانفعال النفسي لن تهبط ولن ترتفع إلا بمقادير مهملة أثناء قراءتها . ومحاولة تذوقك لها تشبه أن تشرب في الصيف وأنت متعطش للماء البارد ماء دافئا درجة حرارته مساوية لدرجة حرارة جسمك ، ماءً عديم الطعم واللون والرائحة فلا هو يرويك وينعشك كما ترغب، ولا هو يدعك ظمآن لتبحث بكامل رغبتك عن ماء سواه .والحال أنك تفقد رغبتك في شرب الماء وأنت غير ممتن .
ونعد هذا النوع من الانطباع سلبيا لأن وظيفة الفن ومعياره الجمالي الأول أن يحدث فرقا ً ذا معنىً في نفس المتلقي ووعيه .وكلما كان الفرق كبيرا دل ذلك على خطورة النص الشعري وتمكن صاحبه من أدواته الفنية ومستوى إبداعه وشاعريته .
وكثيرا ما تختلف وجهات النظر حول تقييم النص الشعري النمطي أو العادي لعدم إخلاله بعناصر الشعر ومقوماته الأساسية من حيث سلامة النظم ووجود عاطفة عامة وأفكار واضحة ورؤية سليمة تتفق مع القيم الأخلاقية الإيجابية المطلوبة وتنتصر لها . لكن ذلك كله لا يرضي الناقد المتقصي للجمال والذي لم يتشكل لديه سوى انطباع عادي نتيجة قراءته الأولية للنص. ومثل هذا الناقد يعلم أن كل ما ذكر من مقومات النص آنفة الذكر لا يغني عن فقدان ذلك الشعور بالهزة النفسية التي تحدث فرقا في نفس المتلقي وتعبر عن الإبداع الحقيقي للشاعرية .
وقد لا يستطيع الشاعر صاحب النص تفهم متطلبات ذلك الناقد كونه يتمثل نصه كشاعر ويعانيه نفسيا عند إنشائه بطريقة مختلفة عما يتمثله بها الناقد وهوعلى الورق، فجزء كبير مما يعتمل في نفس الشاعر من الانفعالات الجمالية عند معاناته للحالة الشعرية يتبقى من النص في نفسه دون أن تطاله الكتابة بالإخراج إلى الورق ،فلا يستطيع الشاعر الفصل نفسيا بين ما بقي في نفسه وبين ما تم إخراجه فيشعر بما لا يشعر به الناقد من رواسب الحالة الشعرية عندما يقرأ نصه هو نفسه كقارئ. لذا فإنه يجهز في نفسه اتهاما مناسبا للناقد يفسر فيه عدم إشادة الناقد بجماليات نصه وعدم حماسه له .
وتحدث مثل هذه الفجوة من سوء التفهم من كلا الطرفين أحدهما تجاه الآخر عندما تتفوق تجربة الناقد الثقافية والجمالية على معطيات النص الشعري فيحكم عليه بالضحالة ويتهمه بالقصور غير آخذ بعين الاعتبار مستوى تجربة الشاعر الذي قد يكون حديث عهد بالكتابة . في حين أن الحكم على النص نفسه قد يكون مختلفا عندما يتقارب مستوى متطلبات القارئ مع مستوى معطيات النص ثقافيا وجماليا .
ويحدث أن يعاني بعض الشعراء في بيئة ثقافية معينة من ناقد متطلب لا يكاد يعجبه ما يشحذون له أقلامهم من تصوير شعري مهما بلغوا من الإتقان حسب تصورهم .فيتهمونه بالتعنت أو بالتجديف خارج الممكن .ولعل المشكلة القائمة بين هؤلاء الشعراء وناقدهم هي سعة الفارق بين متطلباته المطلوبة للرضا عن النص جماليا وبين معطيات نصوصهم . فكلما ازداد القارئ المتذوق أو الناقد صقلا لخبراته الانفعالية الجمالية ارتفعت عتبة إثارته فأصبح أصعب في إرضائه .
ودعونا نشبه الأمر بمشكلة الإدمان على المخدرات . فهذا الذي يدمن على تناول جرعات عالية منها يوميا لن يكون من السهل على طبيب الأسنان تخديره تخديرا موضعيا بالكمية نفسها من البنج التي تستخدم مع سواه . إذ أن اعتياد المادة المخدرة أو حتى المنبهة يرفع من عتبة تنبيه الخلية العصبية مع الزمن وبشكل مطرد . وهكذا فإن تكرار الصور الشعرية المكررة نفسها بصيغ مختلفة بين الشعراء يصبح ممجوجا عند الناقد فيأخذ بالبحث عن جديد يبعث دهشته ويحيي كوامن انفعالاته بإلحاح يشبه التعنت .إذ لم تعد تؤثر فيه تلك الكمية المتداولة من الجرعة الجمالية عبر الصور الشعرية .
ولو سألنا : يا ترى من هو الأشد معاناة في هذه العلاقة ؟ أهم الشعراء النمطيون أم هو الناقد المتطلب ؟ فلعل الجواب يختلف مع اختلاف وجهات النظر .إلا أنني أرى الناقد المتطلب أشد معاناة . وذلك لأنه سيصل إلى مرحلة من الملل يشعر فيها بالخيبة من استمرار الطلب ويقبل بالأمر الواقع فقط .
يتبع بإذن الله