سلواد الفلسطينية تروي الحكاية.. رحلة قام بها: زياد جيّوسي
من خربة كَفر عانا نزلنا التّلة التّرابية أنا وصحبي ومضيفيني الأساتذة عبد الرؤوف عياد والشيخ عبد الكريم عياد وعبد الرحمن صالح حامد “أبو صالح” باتّجاه السّيارة في الأسفل لنتّجه من الخربة باتّجاه برج عرف باسم البردويل لمواصلة الجولة الّتي نسّقتها لي الشّاعرة رفعة يونس ابنة سلواد والمقيمة في عمَّان عاصمة الأردن الجميل، ومن بناه “بلدوين” ملك بيت المقدس الصّليبيّ أثناء الاحتلال الصّليبيّ لفلسطين، ولكنّ الاسم تغيّر عبر الّلهجات المحلّية الى البردويل، وفي الطّريق الزراعيّة إلى البرج كنّا نمرّ عبر العديد ممّن تبقّى من المناطير الزراعيّة الّتي كانت منتشرة بالمرحلة الماضية ومن بين أشجار الزّيتون كنت أنظر لمساحات الحقول الخصبة، حتّى التقينا مع المزارعين باسم فهمي وعبد الكريم فرج وكانوا يجهّزون الشّاي على الحطب تحت زيتونة، وبكرم أبناء سلواد أصرّوا أن يضيّفونا ولكنّنا اعتذرنا لضيق الوقت، وواصلنا طريقنا للبرج الصّليبيّ والّذي يروي مرحلة من تاريخ وطننا.
مباشرة بدأت بالتقاط الصّور وصعدت عبر طريق ترابيّة منهارة لساحة البرج الجنوبيّة، وتأمّلت المنظر السّاحر للمنطقة الّتي يطلّ عليها البرج في منطقة عيون الحراميّة، وفي الجهة المقابلة سلواد المدينة، والبرج يقع في امتداد أراضي سلواد وكل الأراضي الزراعيّة لأبناء سلواد، ويطلّ البرج على مجموعة من القرى، وموقعه يدلّل على بناءه كقلعة تسيطر على الطّرق إلى نابلس وبيت المقدس ورام الله والبيرة وأريحا، وبقي تحت الحكم الصّليبيّ حتّى حرّره المجاهد صلاح الدّين الأيّوبيّ من دنس الاحتلال الصّليبيّ وتمكّن من السّيطرة على ملتقى هذه الطّرق وحاصر الصّليبيّين في القدس حتّى طردهم منها وطهّر بيت المقدس، وقد ورد اسم البرج لدى العديد من الرّحّالة العرب وإن ذكره البعض تحت اسم “بردويل”، ومن الرّحّالة الّذين ذكروه أبو البكر الرّهويّ وياقوت الحمويّ.
البرج وهو أشبه بقلعة بني في واجهته الجنوبيّة على نظام العقد نصف البرميلي، وهذا النّمط من أقوى أنمطة البناء القديمة ولهذا ما زال بشكل عام محافظا على صموده في مواجهة الظروف الجويّة والطّبيعيّة وعمليات التّخريب، والبرج بشكل عام يحتاج لاهتمام وترميم كي يصبح أثرا سياحيّا ويبقى شاهدا على مرحلة مهمة من تاريخ المنطقة، والعقد الجنوبي مفتوح من الجهة المطلّة على عيون الحراميّة ويظهر أنه كان يستخدم كإسطبل للخيول، وأمامه ساحة صغيرة وبقايا سور مرتفع وعلى الأطراف المحيطة سلاسل حجريّة عريضة ومرتفعة وفيها بوّابات بأدراج حجريّة للدّخول إلى البرج وساحاته، وفي الجهة الشماليّة من هذا المبنى توجد بوّابة لدخول الأفراد من ساحة القلعة الدّاخلية بشكل قوسيّ من الحجارة بأعلاها، تحيطها الأشجار وداخل المبنى تتراكم الحجارة في الأرض بشكل فوضويّ بسبب تأثيرات الزّمان وعمليات التخريب البشرية.
قمنا بجولة حول أطراف البرج حيث تقع العديد من المباني بنيت بنفس النمط النّصف برميليّ ولكنّها تعرّضت إلى دمار كبير ولم يبقى من بعضها إلا الأسقف وكانت تستخدم لسكن الجند في البرج، ولم يعد هناك إمكانيّة للدّخول إليها بسبب تراكم الحجارة والأتربة عبر الزمن، والبعض منها قد جرى هدمه واستصلاح السّاحة بين هذه البيوتات والأسوار والجدران للزّراعة، ولفت نظري على أحد الجدران حجر منقوش عليه إشارات كأنّها أزهار لوتس ولكنّ الحجر موضوع بين حجارة الجدار بالعرض وليس بالطول، وهذه المباني كلّها لها بوابات إما مستطيلة أو بشكل قوسيّ من الأعلى ولكن جميعها من الحجارة الضّخمة، ويوجد بئر كبير للمياه في القلعة، وكما روى لي أبو صالح فقد اتّصل به أحد الأشخاص ذات مرة وقال له أنّه يوجد كنز في القلعة في بئر ماء لم يكن معروفا ولم يتم الاستدلال عليه، وحسبما روي له أنّ هذا الشخص عاد مرة أخرى واستدلّ على البئر أثناء وجود الأخ أبو صالح في الاعتقال، وأنّ النّاس أتوا للبرج حين سمعوا بذلك ولكنّ هذا الشخص كان قد غادر، ولا أعلم مدى صحّة حكاية الكنز وإن كنت أشك بها، فلو كان قد دفنه الصّليبيّون في البئر لافتدوا به أنفسهم حين استولى على البرج صلاح الدّين وأسرهم.
ومن المهم الإشارة أنّ قطعان المستوطنين حاولت الاستيلاء على البرج بدعوى أنه أثر عبراني كعادتهم بالتّزوير، ولكن تمّ التّصدّي لهم من أشاوس سلواد وطردهم من المنطقة، علما أنّ هذه الادّعاءات لا أثر لها من الصّحّة أبدا، فكبير علماء الآثار الصّهاينة إسرائيل فلنكشتاين من جامعة تل أبيب والّذي يعرف بأبي الآثار شكّك بوجود أي صلة لليهود بالقدس أو بفلسطين، ولفت نظري حين مغادرتنا البرج باتّجاه سلواد لاستكمال الجولة سيّارة تحمل لوحة أرقام إسرائيلية بها اثنين أجانب يتكلم أحدهم الانجليزية بطلاقة قادمين للبرج، وتوقفوا وتحدثوا معنا وأكملوا طريقهم ولم يعرفوا على جنسيّتهم، ونحن أكملنا طريقنا حيث توقفنا على مسافة قريبة لمشاهدة منطار قديم بناه المزارعون من سلواد وكما أشرت في الحلقة الأولى كان الفلّاحون يقيمون فيها أثناء المواسم الزراعيّة والبعض يسمّونه القصر والبعض يسمّونه سقيفة والبعض يسمّونه المنطار، وهو مبني بشكل دائري متّسع ويتمّيز شكله أنه من طبقتين العلويّة بشكل أشبه بالقبّة وأصغر حجما من السّفليّة، مع درج حجري للصّعود لأعلى وبوّابة قوسيّة الأعلى من الحجارة للدخول إليه، وبين الجدار الخارجيّ والدّاخليّ حيث توجد بوّابة أخرى مقنطرة من الأعلى، كان جدار سميك من الحجارة بحيث لم يكن سمك الجدار يقل عن متر ونصف المتر، ممّا يحفظ الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف، وما زال محافظا على شكله العام مع انهيار بعض الحجارة من أطرافه.
أصرّ الأستاذ عبد الرّحمن صالح حامد “أبو صالح” على دعوتنا للغداء حيث كان مرتبطا بموعد في رام الله، فمررنا بطريق العودة من خلال شارع الشّهداء وهو الشّارع الّذي شهد العديد من الشّهداء وعشرات الجرحى بالمواجهات مع قوات الاحتلال، فتغدّينا وودّعته بحرارة وعلى أمل لقاء آخر يجمعنا، واتّجهت مع الأساتذة عبد الرّؤوف والشّيخ عبد الكريم بسيّارة عبد الرؤوف لاستكمال الجولة وبدأنا بزيارة بيت الشّاعرة رفعة يونس والّذين بدؤوا ببنائه قبل حرب 1967 وأنجز طابق التّسوية ولم يتمّ استكمال البناء بسبب الحرب والإجبار على النزوح للأردن، والبيت من نظام بيوتات جيل الخمسينات في فلسطين مبني من الحجارة ومسقوف بالاسمنت، ولفت نظري أنّ بئر الماء مبني بطريقة غير معهودة حيث الآبار كانت تحفر بالساحات لتجمع مياه الأمطار، فهو يأخذ زاوية سطح البيت وفوهته من السطح الّذي كان من المفروض أن يكون الطابق الأول من البناء، وما زالت حجارة البناء متناثرة حول المبنى تنتظر عودة الغياب لاستكماله، وشاهدت شجرتي اللوز الأخضر واللواتي حدثتني عنهن الشاعرة، ووقفت اتأمل البيت الصغير المغلق فتذكرت مقاطع من قصيدة الشاعرة قصيدة “حضرة الدار”من ديوانها مغناة الليلك، والتي تعبر فيها عن الحنين لبيتهم الّذي أجبرت على مغادرته وهي في الثّالثة عشر من عمرها مع أسرتها حيث كان المرحوم والدها يعمل بالكويت وتقطعت به السّبل ولم يتمكّن من العودة لبيته وبلده، حيث تقول في مطلع القصيدة: “وبرغم لهاث السّنين/ جنون المسافات/ رغم استلاب الخطى فيها/ سأمرّ على حضرة الدّار/ أجمع ما قد تبقّى من سوسن الذّكريات/ صدى الأغنيات/ لعمر غضّ مزروع في حناياها/ وسأجمع توت القبلة/ عطر الرّسالة/ والّلازورد المخبوء في الكلمات الأولى/ طهر الحبّ الأبيض/ سحر نداه/ وفجر الرّعشة/ في نبضه لون حاكورة”.
ومن هناك اتّجهنا لمدرسة ذكور شهداء سلواد الثانوية حيث شاهدتها وصورتها من الخارج فالمدارس مغلقة منذ الجائحة العالميّة، وهي مدرسة ضخمة وكبيرة وذات ساحات واسعة ومكوّنة من ثلاثة طوابق وبها نصب تذكاري لتخليد ذكرى الشّهداء وشاهدتّه من الخلف بسبب إغلاق المدرسة وعدم تمكننا من الدّخول، ثمّ اتّجهنا للمركز الصّحيّ في البلدة حيث تجوّلت فيه، وهو مبنى كبير ومتّسع مكوّن من ثلاثة طوابق فوق الأرض وطابق تحت الأرض بمساحة واسعة، وبنته بلديّة سلواد قبل 23 عام ليكون مشفى يخدم سلواد وما يحيطها، لكن وزارة الصّحّة ولأسباب تعلّلت بها رفضت فكرة أن يكون المبنى مشفى وحوّلته إلى مركز صحّيّ كبير يتبع الهلال الأحمر، وفي المشفى التقينا مع السّيدة أمّ عزّت من كادر الهلال الأحمر الّتي استقبلتنا بالتّرحاب وحدّثتنا عن الخدمات الّتي يقدّمها المركز لأهالي سلواد من خلال عيادات للطبّ العامّ وعيادة للأمراض المزمنة والنّسائيّة والتّوليد والأمّ والطّفل إضافة لصيدليّة واسعة وكبيرة وأطبّاء غير ثابتين من تخصّصات عدّة كالأسنان والعظام، من المركز الصّحيّ واصلنا الطّريق باتّجاه بيت الشّهيد محمّد عبد الرّحمن عيّاد لنبدأ بعدها الجولة في البلدة التّراثيّة وهذا ما سيكون مدار الحلقة الثّالثة إن شاء الله.
صباح آخر مع نسمات مقبولة اليوم، احتسي قهوتي قبل أن اتّجه لمدينة طولكرم وأحتسي قهوتي في وكني في بلدتي جيّوس، مع شدو فيروز الّتي أشعر بالكلمات فيها تخاطب سلواد: ” البرج بالزّينة الغريبة والع، ضحكت صبية وحليت المطالع، شعرك قصيدة والخصر بزارة، طيري وخلي هالقلوب يطيروا، بلكي الهوا بيبعد نواطيرو، يا صبح ورد وزقزقوا عصافيرو، إنت الهوى يا نجمة القمارة”.
فأهمس: صباحكم أجمل أحبّة ووطن حتّى نلتقي بالحلقة الثّالثة وسلواد لبؤة الجبال وهي تروي لنا الحكاية..
“جيّوس 26/6/2020”