عظّم الله أجركم
محمد فيض خالد | كاتب وباحث مصري
بهذهِ الكلماتِ الموجزة تمتد الأيدي بالمصافحةِ، لكنّها مصافحة ليست كالمصافحةِ ، إنّها لا تمتد بهذهِ الكيفيةِ، إلا ساعة تكون النّفس فيها أحوج إلى من يجبر كسّرها، ويلملم شعثها ، تكون العيون احوج إلى من يمسح عنها دمعتها المنسكبة حُزنا وقهرا ولوعة واشتياقا ، تمتد معها القلوب فتلامس جراح النفوس الملتاعة وندوبها الملتهبة ، فتضمّها إليها بحنوٍ قبل أن تتلامس الأطراف بالسلامِ.
هذه الكلمات هي بوابة يعبر منها الودّ عذبا فراتا، ويتدفق منها الحنو فيتغلغل في زوايا الأرواح ، فتبرد معه نيرانها، في ساعةِ العزاء ، ووسط الحشودِ ، تتعلق العيون بالقادمِ الذي سعى إليها ؛ يؤدي واجبه ، جاء طوعا أو كرها ، ولكنه في الأخيرِ أتى ، تتلاقى العيون وتتحرك الألسن بتلك العبارةِ ، فتجيبها ألسن أُخر ، أو تهتز رؤوس بالرضا ، تذوب حزازات النفوس ، وتخمد نيران القلوب التي اشعلتها دنيا العباد الفانية، وتفتح مع هذه الفجيعة صفحات جديدة من صفحاتِ الأخوةِ ، وتمزّق أوراق علاقات شائكة ، كانت قد طمسها الحقدِ والكُرهِ.
تعوّدنا في قُرانا الطيبةِ تأدية هذه الطقوس ، يعرفها البُسطاء من أبناءِ الطّينِ باسم ” الواجب ” أو ” المِهم” يذهب الغريمُ لتعزيةِ غريمهِ ، يُلاقيه ويتلقى عزاءه ، يفسح له في مجلسهِ ، ويغدق عليه واجبات الضيافة والكرم ، فالعرف ساعتئذٍ فوق الرِّقابِ ، أن من دخل بيتك فهو في حرمك وذمتك وجوارك، لا يُرد أبدا حتى وإن بلغ العداء مبلغه ، اعرف الكثير من العداءات القديمة المعقدة التي استعصى حليها ، حتى على جلساتِ المصالحةِ العُرفية، فُكت شفرتها بعد أداء واجب العزاء من الخصومِ، فمشاركة الناس أحزانهم، بوابة رحبة من بواباتِ التصّافي بين بني الإنسان .
في زمنِ الطّيبين في ريفنا العظيم ، كان الناس احرص على تأديةِ العزاءِ مهما كانت الكُلفة ، تُضرب لأجلها المواعيد في الجوامع بعد الصلواتِ ، أو في التجمعات الرئيسية في القرى ، كالمصاطبِ الكبيرة ، التي اعتاد الناس ارتيادها على مدارِ يومهم ، يشيع المنادي : أن غدا بعد صلاةِ العشاءِ يتحرك الرّكب للقريةِ الفلانيةِ ، لأداءِ واجب العزاء ، في أغلبِ الأحيان ِ يكون المتوفي أو صاحب العزاء ، إمّا قريبا أو صديقا لأحدِ أبناء قريتنا ، وعليهِ فالواجب يحتّم الذّهاب ، ترضيةً لخاطرِ ابن البلد ، الذي يجد في أبناءِ قريته العزوة والسّندِ، والصحبة التي يرفع بها الرأس ، و تُمكّنه من التباهي بين معارفهِ ، أو يقيس بها محبة من حولهِ ممن جاملوه، الذين اقتطعوا من أوقاتهم لأجلِ خاطرهِ، تُعدّ( الركايب ) من الحمير ، ويتقابل الناس فوقَ الجِسرِ الكبير ، باعتباره نقطة تجمعٍ مركزيةٍ، يجري عندها التأكد من حضورِ كُلّ من أبدى نيته الذهاب ، ثم تنطلق قافلة العزاء بين طياتِ الظلام ، كي يؤدوا ما عليهم من واجبٍ ، في زمنِ الطيبين رأيتُ أُناسا لا يملكون دوابا تحملهم ، قصدوا مسالك أخرى كالمصارفِ والمجاري والترعِ الصّغيرة ، بين الحقولِ والتي تكون الطريق معها أقرب وأسهل.
في قريتنا الطيبةِ، كان الناس كالجسدِ الواحدِ ، إذا اشتكى منه عضو ، وفي أوقاتِ الشِّدةِ يتلاقى الناس على موائدِ الأحزانِ ، يحزن الجار لمُصابِ جارهِ ، يشعر بما يشعر أهل المتوفي ، فللجيرةِ أصولها _ هكذا تربى الناس _ يُخيّم الحزن فوق البيوتِ ، وتتشح الحياة بالسوادِ ، تماما كلباسِ النساء وقتئذٍ ، تختفي كافة مظاهر الفرح والابتهاج ، حتى وإن كانت في الخفاءِ ، لا فرق فيها بين مسلم ٍ ومسيحي فقير وغني، فالحزن واحد والمُصاب واحد، تفتح البيوت أبوابها ، تُعطّل الأعمال في الحقولِ وغيرها ، فلا يُفارق الجار جاره مهما حصل وقت حِدادهِ ، بل يواسيه ويقتسم معه أوجاعه بمشاعر صادقةٍ وقلبٍ مكلموم.
في قريتنا الطيبة، كان الناس يحترموا الجنائز ويوقروا ركبها المهيب ، يقوموا سراعا ساعة مرورها ، يمر من أمامِ قريتنا جسرا ، يعتبر شريان المواصلات الوحيد الذي يقصده أهل القرى المجاورة ، في طريقهم للمقابرِ في الصحراءِ غرب بحرِ يوسف ، وتحت هذا الجِسرِ تتسع الحقول ، شاهدت مرارا كيف يقف الفلاحون اجلالا وإكبارًا لهذا المشهد ، كيف ينقطع الكلام حتى مرور الموكب واحتفاءه عن الأنظارِ ، دون أن يعرفوا أهلية الميت أو حتى دينه.
في قريتنا الطيبة، تمتد مظاهر المواساة لأهلِ الميت أيامًا ، فلا تكفي الكلمات المجردة عن التعبير عما يشعر أصحابها ، بل تتعداها لمظاهرٍ أخرى أكثر ألفة وحميمية ، اذكر في مرةٍ من المراتِ ، وبعد الانتهاء ِ من تجهيزات أحد أعراس القرية ، وقبل الفرح بساعاتٍ توفي أحد أبناء القرية ، فما كان من أهل العريس إلا التصميم على تأجيل عرسهم ، ومشاركة أهل المتوفي أحزانهم ، لولا إصرار أهل الميت أن يتم في موعده ، اقيم العرس بعدها بأيامٍ دون مظاهره المعتادة .
اعتبر أهلنا في أزمنةِ المرءوة بأن علامات اكتمال الرجولة ، وتمام الفحولة ذهاب المرء لتأديةِ واجب العزاء ، وبهذا يكتب اسمه في سجلِ الكبارِ ، ويُنزع عنه رداء الصبيان ، وتتغيّر نظرة الناس ، بعد أن ودّع عهدا كان فيه غير مكتملٍ، إلى عهدٍ هو أقرب فيه إلى النضجِ والتمييز .
وممّا يُحمد لأبي _ عليهِ سحائب الرضوان _ أنّه عوّدني صغيرا خوض هذا المعترك ، فوجدتني صبيا بين الرجالِ ، اتناوب على تقديمِ العزاء نيابةً عنه داخل القريةِ وخارجها ، في بدايةِ التجربة شعرت بكثيرٍ من المللِ والاحراج ِ ، إذا كيف لصبيٍ أمرد مثلي، أن يُزاحِم الكبار في هذه الطقوس الجنائزيةِ ، التي لا يُرى فيها إلا الشوارب الثِّقال ، واللِّحى الغزار، ثم بعد مدةٍ ذهب عني الرّوع ، فلم افوّتها إلا لِماما.
كثيرا ما تحدث بعض المفارقات التي لا تخلو من الطرافةِ أثناء العزاءِ ، اذكر أنني ذهبتُ مع جماعةٍ من أبناء ِ قريتنا ؛ لتأديةِ واجب العزاء في قريةٍ مجاورةٍ ، وأثناء مرورنا للمصافحةِ المُعتادة ، التي اصطفّ فيها أهل المتوفي ، وإذ بي اقف أمام شخصٍ شدّ ذراعه الأيمن إلى رقبتهِ في جبيرةٍ كبيرة ، توقفت للحظاتٍ اقلب فكري ، وعلى الفورِ مددت يدي اليسرى ، فصافحته وتغلّبت على العقبةِ .
في أزمنتنا الطيبة تظل مجالس عزاء النِّساء منصوبة ، تذرف الجارة الدَّمع مع جارتها حال فقد عزيزها ، لا ُتفارقها أبدا إلا لحاجةٍ ماسة .
في قريتنا الطيبة ، كانت أموال المتوفي وممتلكاته مصونة، لا يعتدى عليها أبدا ، لا تُسرق مواشيه ، ولا ُينهب زرعه ، اكراما له ، كان يُراعى ابنه فلا يُهان بعد أن دثّره اليتم بدثارهِ.
في زمننا الذي ابتلينا فيه بكُلّ قبيحٍ _ اللهم إلا ما ندر_ أصبح العُرف مُنكرا ، والأصول مُهانة ، والموروث منتهك، سطا الناس على أي شيءٍ يربطهم بماضيهم الجميل ، وتقاليده التي كان الإنسان فيها إنسانا .
لا تُراعى للميتِ حرُمة ، ولا للجارِ كرامة ، ولا يُنكِر منكرٌ على أحدٍ هذا التجرؤ الفجّ ، تقام الأعراس وتُرفع الزينات ، وتعلّق الرايات ، وتُضاء الأنوار ، وتمتلئ الشوارع بالموسيقى ، وتمايل الأجساد على الأنغامِ الراقصة ، وإلى جوارهم ميت لم يبرد في قبرهِ دمه ، ولم تجفّ دموع ذويهِ وأهله ، بل والأدهى من هذا وذاك ، يتشفّى الجار في موتِ جارهِ ، وتلك وربي لإحدى الكُبر.
أصبحنا في عصر انعدم فيه الوفاء _ إلا ما رحم ربي _ فلا تجد إلى جوارك في مصيبةِ الموت إلا بعض نفرٍ ، يعدوا على أصابعِ اليد الواحدة ، أصبح الموت حادثا عرضا لا يهتم له الناس، ولا يهابوا مصابه الجلل الذي كانت تقف له الدنيا توقيرا وخشوعا ، أصبح تأديةِ واجب العزاء تبعا للهوى ، رسالة قصيرة باهتة من الجوالِ ، يرسل بأحرفها المعزي من تحتِ غطاءه ، وربما وهو يقضي حاجته وكفا ، وإن استبد بهِ الحماس ورغب في توثيق المجاملة ، فمكالمة تلفونية عبر برامج التواصل المجانية لا تكلفه قرش صاغٍ واحد ..
يخشى في أزمنةٍ قادمة ، أن تتلاشى هيبة الموت تماما من صدورِ الناس ، فيصبح كأي شيءٍ من تفاصيل الحياة ، عندها ينزع الخير من قلوبهم، ونقول على الدنيا السلام ..
رحم الله أبي ووسع مدخله ، ورحم الله موتانا وموتاكم… وعظم الله أجركم .