البصمة الوراثية
الأستاذ الدكتور أحمد علي دنقل | أستاذ الوراثة الجزيئية
بداية قبل أن نُعرِّف البصمة الوراثية … ما هو الـ “DNA”؟
كل كيلو جرام من وزن جسم الإنسان يحمل عشرة ترليونات (مليون مليون) من الخلايا تعادل طول صور الصين العظيم؟! وكل خلية تحمل شريط منDNA طوله ما يقرب من 2 متر مقسم الى 26 ألف جين. إجمالي طول الـDNA في جسم الإنسان يصل إلى الشمس ويعود الى الارض مرة اخرى ورغم ذلك لا يزن أكثر من 350 مليجرام اي اقل من نصف جرام، إلا أنه يحكم كل العمليات الحيوية في داخل جسم كل الكائنات الحية.
البصمة الوراثية أو البصمة الجينية أو بصمة الحمض النووي (DNA fingerprint) هي أحدث الوسائل الحديثة المستخدمة في التعرف على اشخاص مجهولي الهوية أو إثبات النسب وفي البحث الجنائي وربما التنبؤ بالأمراض التي من المحتمل أن يصاب بها الإنسان وفي الأعوام الأخيرة أصبحت البصمة الوراثية من أهم التقنيات التي حلت كثيرا من المشاكل في مجال البحث الجنائي ومحاربة الجريمة. إن كل ما يحتاج إليه المحققون لتحديد البصمة الوراثية هو العثور على دليل مادي في مكان الجريمة، مثل: قطرات الدم او العرق، السائل المنوي، الشعر، واللعاب. فكل ما يلمس المرء، ومهما بلغت بساطة اللمسة، سيترك أثراً لبصمة وراثية فريدة
ومن حسن الحظ أن الحامض النووي يقاوم عوامل التحلل والتعفن لفترات طويلة تصل إلى عدة شهور بل ظل حبيسا في مومياوات الفراعنة من آلاف السنين.
اكتشاف البصمة الوراثية
تم اكتشاف البصمة الوراثية في عام 1984 حينما نشر د. “آليك جيفريز” عالم الوراثة بجامعة ليستر بإنجلترا بحثًا أوضح فيه أن المادة الوراثية قد تتكرر عدة مرات، وتعيد نفسها في متتابعات عشوائية غير مفهومة، إلى أن هذه المتتابعات مميِّزة لكل فرد، ولا يمكن أن تتشابه بين اثنين إلا في حالات التوائم المتماثلة فقط اللذان يأتيان من نفس البويضة بنسبة عالية ولكن ليس 100%؛ بل إن احتمال تشابه بصمتين وراثيتين بين شخص وآخر هو واحد في الترليون، مما يجعل التشابه مستحيلاً؛ ، وسجل الدكتور «آليك» براءة اكتشافه عام 1985، وأطلق على هذه المتتابعات اسم «البصمة الوراثية للإنسان» (أو بصمة الدنا للإنسان) .
كيفية اجراء البصمة وراثية
- تُستخرَج عينة(DNA) من نسيج الجسم أو سوائله (مثل الشعر، أونقطة دم، أو اللعاب او السائل المنوي).
- تُقطَع العينة بواسطة إنزيم معين يمكنه قطع شريطي د ن ا طوليًّا؛ هذا الإنزيم يسمى المقص الجيني. هذا المقص يقص شريط د ن ا الى قطع مختلفة الاطوال في كل شخص
- تُرتَّب وتفرد هذه القطع منDNA باستخدام طريقة تُسمَّى بالتفريد الكهربائي
- تُعرَّض هذه القطع إلى صبغة معينة التي تساعد في الكشف عنها ورؤيتها عن طريق الاشعة الفوق بنفسجية على شكل خطوط داكنة اللون ومتوازية وفي الشكل المرفق توضيح لتلك القطع ومقارنتها مع الآباء
وبدراسة على إحدى العائلات يختبر فيها توريث هذه البصمة، وتبين أن الأبناء يحملون خطوطاً يجيء بعضها من الأم، والبعض الآخر من الأب، وتحدث خلطة جديدة للمقاطع للأبن والجدير بالذكر ان هذه الخلطة لا تورث 100% لكل الأبناء ولكن بنسبة مختلفة التي تعطي كل ابن بصمته التي تميزه عن الأخر رغم ان المصدر واحد هو الآباء ولكن تكون النسبةعالية في التؤام السيامي من نفس البويضة.
يكفي لاختبار البصمة الوراثية نقطة دم صغيرة؛ بل إن شعرة واحدة إذا سقطت من جسم الشخص المُرَاد، أو لعاب سال من فمه، أو أي شيء من لوازمه؛ فإن هذا كفيل بأن يوضح اختبار البصمة بوضوح كما تقول أبحاث د. «آليك». قد تمسح أو تطمس بصمة الأصابع بسهولة، ولكن بصمة الدنا يستحيل مسحها من ورائك، وبمجرد المصافحة قد تنقل الدنا الخاصة بك إلى يد مَن تصافحه.
العلم في دهاليز المحاكم:
في البداية.. استخدم اختبار البصمة الوراثية في مجال الطب، وفصل في دراسة الأمراض الجينية وعمليات زرع الأنسجة، وغيرها، ولكنه سرعان ما دخل في عالم “الطب الشرعي” وقفز به قفزة هائلة؛ حيث تعرف على الجثث المشوهة، وتتبع الأطفال المفقودين، وأخرجت المحاكم البريطانية ملفات الجرائم التي قُيِّدَت ضد مجهول، وفُتِحَت التحقيقات فيها من جديد، وبرَّأت البصمة الوراثية مئات الأشخاص من جرائم القتل والاغتصاب، وأدانت آخرين، وكانت لها الكلمة الفاصلة في قضايا الأنساب، وواحدة من أشهر الجرائم التي ارتبط اسمها بالبصمة الوراثية هي قضية د. “سام شبرد”الذي أُدِين بقتل زوجته ضربًا حتى الموت في عام 1955 أمام محكمي أوهايو بالولايات المتحدة، وكانت هذه القضية هي فكرة المسلسل المشهور “الهارب” The Fugitive في عام 1984.
في فترة وجيزة تحولت القضية إلى قضية رأي عام، وأُذِيعَت المحاكمة عبر الراديو وسُمِحَ لجميع وكالات الأنباء بالحضور، ولم يكن هناك بيت في هذه الولاية إلا ويطالب بالقصاص، ووسط هذا الضغط الإعلامي أُغلِقَ ملف كان يذكر احتمالية وجود شخص ثالث وُجِدَت آثار دمائه على سرير المجني عليها في أثناء مقاومته، قضي د.”سام” في السجن عشر سنوات، ثم أُعِيدَت محاكمته عام 1965، وحصل على براءته التي لم يقتنع بها الكثيرون حتى كان أغسطس عام 1993، حينما طلب الابن الأوحد لـ”د. سام شبرد” فتح القضية من جديد وتطبيق اختبار البصمة الوراثية.
أمرت المحكمة في مارس 1998 بأخذ عينة من جثة “شبرد”، وأثبت الطب الشرعي أن الدماء التي وُجِدَت على سرير المجني عليها ليست دماء “سام شبرد”، بل دماء صديق العائلة، وأدانته البصمة الوراثية، وأُسدِلَ الستار على واحدة من أطول محاكمات التاريخ في يناير 2000 بعدما حددت البصمة الوراثية كلمتها.