المفكّر العراقي علي الوردي وعلي جبار عطية (وجهًا لوجه)

لا أدري ماذا فعلتُ للحكومة حتى تعدّني مواطناً من الدرجة الثانية

كتبي صدرت منذ عام ١٩٥٤م، وأنتَ قرأتها بعد ثلاثين سنة؟!

الإنسان تتحكّم فيه مسألتان: الأنوية وتحيّز العقل البشري.

كلّنا مجانين، أما سبب الجنون، فيعجز العلم عن تفسيره.

إنَّ الإنسان كالكلبِ إعرفْ طبيعته، تستفد منه!

الإنسان مسيَّر، والتخيير فيه قليلٌ إلا من رحم ربك

لو رجع النبي محمد للحياة الدنيا ستحاربونه؛ لأنكم نشأتم على قوالب فكريّة تقدّس الأوثان

ثلاثة روادع تمنع الإنسان من الشر: خوف الله، والقانون، والعرف

 

عليّ الوردي ، عِلمٌ يسعى !

التقيتُ الدكتور علي الوردي (١٩١٣ م ـ ١٩٩٥ م) وجهاً لوجه في ظهيرة يومٍ دافئ من أيام الشتاء الجميل، ذلك هو يوم الأربعاء الموافق ١٩٨٨/١/٢٧ م في منطقة الأعظمية، قرب إعدادية الحريري للبنات، في أثناء صعودي في سيارة الكوستر الذاهبة إلى مدينة الكاظمية.

كنتُ آيباً من كلية الإدارة، والإقتصاد في منطقة الوزيرية، باتّجاه الأعظمية، وما أن صعدتُ السيّارة حتى رأيتُه  بمعطفه الأسود، وسدارته البغداديّة (الفيصلية)، وروح دعابته التي لا تفارقه، وكان يلاطف طفلاً يقعد جوار أمه، وهي سعيدةٌ، وربما تكون أسعد، لو عرفت أنّها تجاور أبرز علماء الإجتماع.

كان لقاءً أشبه بالحلم، فبيني، وبينه نصف قرنٍ من الزمن؛ لذا سارعتُ إلى فرك عينيَّ! تبيَّن  لي أنَّ الأمر حقيقةٌ واقعةٌ، ولم يكن محض خيال محبٍّ. كنتُ قبل لقائي إياه بسنتين، قد عكفتُ على قراءة أغلب كتبه في استعارةٍ داخليّةٍ من المكتبة الوطنيّة في باب المعظم، ساعدتني في ذلك سهولة مواد قسم المحاسبة، الذي كنتُ أدرس فيه؛ للحصول على البكالوريوس في واحدةٍ من مفارقات الدهر، وكما يقول الشاعر:

هوى ناقتي خلفي،وقدّامي الهوى

وإنّــــــي ، وإيّـــــــاها لمختلفانِ !

ما إن وصلت السيارة إلى محطتها الأخيرة، قرب ساحة باب الدروازة بالكاظمية المكتظّة بالناس، والبضائع المتنوّعة، حتى هرعتُ إلى الوردي، وأخذتني هيبة العلماء، فغلبتها، منتهزاً الفرصة، مُلخّصاً في دقائق إعجابي الشديد به، ورغبتي الأشدّ في تتويج هذا الإعجاب بتضييفه في منتدى الأدباء الشباب، في قاعة إبن النديم، مقابل وزارة الدفاع.

رحّب الورديّ بذلك فوراً وسط دهشتي، ثم سرنا سويةً في أزقّة الكاظميّة كأنّي أمشي على الحرير ! تجرّأتُ فقلتُ له: أين سكرتيرك، أين سائقك؟

ردّ عليَّ: يا سكرتير، يا سائق ! لقد أمضيتُ وقتاً غير يسير بانتظار سيّارة النقل العام.

أردف، ومن دون تردّدٍ: لقد قلتُ لأحد المسؤولين كلمةً، أعيدها عليك ثانيةً، وأنقلها إلى مَن تريد:  إنّي علي الوردي، عمري ٧٥ سنة ، لو سُئلتُ عن أسوأ فترةٍ عُوملت فيها، فهي هذه الفترة !

أضاف: لا أدري ماذا فعلتُ للحكومة حتى تعدّني مواطناً من الدرجة الثانية!

انتابني شعورٌ بالذنب؛ فربما ظنّني أحد عناصر الأمن الذين يراقبونه؛ فأكون قد أقلقته!

واصلنا خطواتنا، فمررنا ببعض أصحاب المكتبات، كان الوردي يتوقّف عندهم، ويسألهم عن آخر كتابٍ أصدره عنه الباحث حميد المطبعي، وعنوانه (علي الوردي يدافع عن نفسه)، وهو عبارة عن حوارٍ طويلٍ أجراه المطبعي معه نشر بعضاً منه في جريدة (الثورة) في حلقاتٍ، ويكشف فيه الوردي عن بعض الخفايا، ومنها أنَّه كان كالغزّالي:  متشكّكٌ في العقيدة، ثمَّ انتهى إلى الإيمان في آخر المطاف، وأنَّه من أنجح كتاب عصره، وقد اغتنى من طبع كتبه، وهذه ظاهرةٌ لافتةٌ، أن يربح المؤلّف من طبع الكتب! لكنَّه يقول: إنَّه صرف ماله في السفر، وفي اقتناء الكتب التي يزيد عددها على خمسين ألف كتابٍ !

ويصف الوردي الملك فيصل الأول بصفاتٍ حميدةٍ، وأنَّه سياسيٌّ بارعٌ، وأنَّ الوردي كان يكرهه حتى عام ١٩٧٢ م حين سافر إلى بريطانيا، وقرأ الوثائق البريطانية، وبالتحديد رسائل المس بيل التي كانت تعجب من سلوك فيصل الأول الذي يُقرِّب المعارضة، عندها أحبّه الوردي، وأعاد نظرته إليه!

في هذا الكتاب يسخر الوردي من الشعب الذي خوَّن الملك فيصل الأول حتى عام ١٩٣٣م، حين مات، فصار وطنيّاً!

نعرف أيضاً أنَّ الوردي كان اشتراكياً، ولم يكن شيوعياً، وأنَّه يفضّل الأسلوب التلغرافي في الكتابة ، وكان معجباً بالكاتب سلامة موسى في شبابه، ثمَّ اتّضحت له بساطة أفكاره.

أمّا بشأن توقيتات نشاطه الكتابي فيقول: إنَّه كان يكتب بمعدل ١٤ ساعة في اليوم، لكنَّه، ومنذ خمس سنوات، يكتب بمعدل ساعتين في اليوم كتاباً عنوانه (حول طبيعة البشر).

كان أحد أصحاب المكتبات مصريّاً، فسأله الوردي عن حركة بيع كتابه فسأل البائع مندهشاً: (تبئَه  أنتَ المؤلف!؟)، تعالت الضحكات!

التفت إليَّ الوردي، وسألني: متى قرأتَ كتبي؟

رددتُ: سنة ١٩٨٤ م.

صاح مندهشاً، وبنبرةٍ ساخرةٍ :كتبي صدرت منذ عام ١٩٥٤م، وأنتَ قرأتها بعد ثلاثين سنة !؟

قال: كيف تصل إلى الكلية؟

قلتُ: أركب السيارة من منطقة الدولعي إلى الكاظمية، ثمَّ أركب سيارةً إلى الوزيرية.

سأل: يومياً؟

قلتُ: يومياً !

 فردّ: الله يساعدك! وظلّ يكرِّر هذه الجملة أمام كلّ من يقف عنده، فيشير إليَّ، ويقول: هذا الأخ، يومياً يركب من الدولعي إلى الكاظمية، وينهك، ثمَّ يركب إلى الوزيريّة يوميّاً!!

فيصير جوٌّ من الفكاهة، وعرفتُ أنَّ الوردي صانعٌ ماهرٌ من صنّاع البهجة، والسرور، ومن دون تكلّفٍ، وهذه مهمّةٌ ليست يسيرة.

يروي هذه الحادثة في كتابه آنف الذكر، يقول: زرت إحدى القرى فسمعت فرّاشاً (عامل خدمات) يُعيّر بقالاً، ويقول له: تشتغل (بجيجيل)، ياهو الياخذ بناتك !

فيرد عليه البقّال بالقول: أحسن منك، فرّاش !

فيجيبه الفرّاش: شبيه الفرّاش.. الفرّاش حكومة !!

اتّفقتُ مع الوردي على أن يكون عنوان المحاضرة (الطبيعة البشرية)، وأعطاني رقم هاتفه الأرضيّ، وأخذ اسمي، على أن أتّصل به قبل موعد إلقاء المحاضرة بثلاثة أيامٍ.

توقّف الورديّ عند أحد محال الصاغة، ويبدو من أقاربه، وودّعته على أمل اللقاء المرتقب.

عند الساعة الخامسة، والنصف من مساء يوم السبت الموافق ١٩٨٨/٢/٦َ م حضرنا إلى قاعة ابن النديم في باب المعظم بانتظار الوردي، لكنّ الوردي لم يحضر.

اقتربت الساعة من  السادسة مساء، شعرتُ بالقلق، اتّصلت به هاتفيّاً مستفسراً؛ فأجابني إنَّه منزعجٌ؛ لأنَّ الإعلان عن المحاضرة لم يكن كافياً، فقد ظهر في جريدة القادسية يوم الخميس الماضي، ولمرّةٍ واحدةٍ ، وكان عنوان المحاضرة خاطئاً هو (المجتمع العراقي)، فضلاً عن أنَّه لم يذكر الوقت بدقةٍ، وإنَّما وردت عبارة (مساء السبت).

قلتُ له مستخدماً أكثر عبارات التوسّل: أرجوك دكتور، لقد حضر في القاعة من ينتظرك، ويريد سماع آرائك.

نجحت المحاولة، فوعدني بالحضور .

بعد دقائق حضرت هيبة الوردي مع أحد أولاده.

كان جلّ الحاضرين من الشباب المتحمّسين الرافضين لسياسات الـ(لا نظام)، والحروب العبثية، والصوت الواحد، والحزب الواحد؛ لذا كان مجرّد الحضور هو تعبيرٌ عن موقفٍ.

انزعج الوردي كثيراً من عدم وجود مايكرفون، وحين قدّمه بحماسةٍ واحتفاء: الشاعر علي الشلاه لم يخفّف ذلك من انزعاجه، لكنَّه طلب تأجيل المحاضرة إلى وقتٍ آخر، وقال: إنَّه سيكتفي بملاحظاتٍ عامة. 

بعد دقائقٍ تبدّل الحال إذ رأى حسن إصغائنا، فطلب من؟ا ـ وكنّا نحو سبعين شخصاً ـ بالتجمّع في مكانٍ واحدٍ، وقال: الآن انفتحت قريحتي، وسأعطيكم محاضرةً كاملةً عن (الطبيعة البشرية).

قال: إنَّ ما سيذكرهُ هو خلاصةٌ لتجربته في البحث، والتعليم، وإنَّه عمل معلماً ثلاثاً، وثلاثين سنة وتوصّل إلى أن الإنسان تتحكّم فيه مسألتان: الأنوية (التي هي غير الأنانية)، وتحيّز العقل البشري.

أضاف: إنَّ الأناني يبحث عن مصلحته فقط.، أما الأنوي، فهو أن يشعر الإنسان بالأنا، فالطفل يريد مكانةً وتقديراً من غيره، والإنسان يخدم غيره، ويضحّي بنفسه في سبيل التقدير، فالبدوي يغزو، ويموت من أجل أن يرتفع ذكره .

قيل لبدوي: لماذا هربت ؟

فأجاب: أن يقال هرب لعنه الله خير من أن يقال مات رحمه الله !

وعلّق: هذه طبيعة أخرى، حيث يحدث صراع داخل الإنسان بين طبيعته الحيوانية، وطبيعته الإجتماعية(الكلب، والإنسان)، والناس درجات، وكلّنا مجانين، ولكنّنا نختلف بالدرجات! أما سبب الجنون ، فيعجز العلم عن تفسيره.

وقال: إنَّ الإنسان خيّرٌ، وشريرٌ، ومتعاونٌ، ومتنازعٌ في الوقت نفسه، ولولا التعاون؛ ما ظهر المجتمع البشري، ولولا التنازع؛ ما تطور المجتمع البشري، أنَّ مجتمع النحل متعاونٌ، لكنَّه لم يتطور منذ ملايين السنين.

وصدم الحاضرين بجملةٍ جعلت بعضهم يغادر القاعة، فصاح الوردي بمن خرج: ليش تطلعون؟ ما عجبكم كلامي؟

أمّا الجملة الصادمة فهي قول الوردي 🙁إنَّ الإنسان كالكلبِ إعرفْ طبيعته، تستفد منه!) وهي الفكرة التي طرحها في كتابه النفيس( لمحات إجتماعية من تاريخ العراق ـ الجزء السادس ص ٣٦٤ إذ قال: ( طبيعة الإنسان لم تتغير حيث بقي هوَ هوَ: ذلك الحيوان المتعصّب الذي عرفناه منذ قديم الزمان).

وقال أيضاً:(إنَّ العقل البشري متحيّزٌ محدودٌ بطبيعته)، وأردف الوردي في بيان خبرته بطبيعة الإنسان: لا تقلْ للإنسان الحقيقة! وعندما تصير معلماً استفد من خبرتي في التعليم التي زادت على الثلاثين سنة، فلا تتساهل مع المشاغب. وإذا لم تفهم الطبيعة البشرية، وتراعي الأنوية، وتحيّز العقل ستفشل.

ثمَّ بيَّن بجملٍ موجزةٍ آراءه العامة، فقال: الإنسان مسيَّر، والتخيير فيه قليلٌ إلا من رحم ربك. إنَّ الله خلق الأنوية في الإنسان لحكمةٍ إرتآها سبحانه، وتعالى: كما يقول المتصوّفة.

(الإنسان طفلٌ كبيرٌ) .. من المبادئ النفسيّة الحديثة.

هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة التي نشأنا عليها، وأصابتنا بالكثير من الأخطاء، لقد كنتُ أتصوّر أن الطبيعة البشرية مثلما عُرّفت في الكتب : (الإنسان حيوانٌ عاقل) ولكن أين هو العقل، ولماذا لا يركن إلبشر إليه ؟

كنتُ أُلقي بعض المحاضرات في معهد الدراسات العربية في موضوع الطبيعة البشرية، سألني طالب: إذا كنتَ تعرف الطبيعة البشرية، فلماذا لم تنجح في حياتك؟

قلتُ له: لقد تعلمنا الطبيعة البشرية بعد فوات الأوان، وأقولها للأجيال القادمة: ويحكم! لا تقعوا في نفس الأخطاء التي وقعنا فيها. ثمّ بيَّن بشجاعةٍ رأيه في بشرية الحاكم، وخضوعه للأهواء فقال: إنَّ النظريات المثالية طوباوية؛ خذوا مثلاً: المدينة الفاضلة للفارابي حيث يقول: لا يصلح البشر بغير صلاح الحاكم، ويرتّب كلّ شروط كمال الحاكم، ولكنَّنا نقول: هل يوجد مثل هذا الحاكم، وإذا وجد، فهل يتركه الحكام الآخرون؟

وأوضح:إنَّ هناك ثلاثة روادع تمنع الإنسان من الشر: خوف الله ، وهو أقل الروادع ، والقانون، والعرف (الجزاء الاجتماعي).

ارفع المحاكم، وانظر ماذا يحدث للناس؟ وقد أجمع فقهاء المسلمين بأن الحاكم الجائر خيرٌ  من  اللاحاكم، وأن الناس دون حاكم، يأكل بعضهم بعضاً !

ثمَّ جاء بهذه الحكاية فقال: في إحدى المحاضرات سألت طلابي: لو ظهر النبي محمد الآن، فماذا تفعلون ؟

قالوا: ننصره !

قلتُ لهم: كذبتم! فلو ظهر محمد ليحارب الأوثان، فستحاربونه؛ لأنكم نشأتم على قوالب فكريّة تقدّس الأوثان.

ومن دون محاذير، فاجأ الحاضرين بقوله :انقلوا عنّي:  لقد مُنعتُ من السفر مع الأسف الشديد، وتوقّفتُ عن تكملة كتابي عن الطبيعة البشرية؛ لعدم وجود علمٍ جديدٍ ولو سئلت عن أسوأ فترة عوملت فيها، فهي هذه الفترة !

استمرّت الأمسية مع المداخلات ساعةً، ونصف الساعة، وبقيت نكهتها حاضرةً في نفسي حتى الآن .

 تعدّدت متابعاتي للوردي في محاضراته، وفي المجالس الشهرية، وفي الجعبة أشياءٌ كثيرةٌ عن الوردي تحتاج إلى مقالٍ، ومقامٍ آخرين، إلا إنّني سأؤجلها إلى وقتٍ آخر، لكنّي سأذكر آخر لقاء مباشر لي مع الوردي جرى ظهيرة يوم الإثنين الموافق ١٩٩٢/٣/٢م إذ التقيته  في الكاظمية، ومن دون مقدّمات، قلت له: لقد حمَّلني أحد الباحثين (ياس ناصر العبيدي) (١٩٤١م ـ ٢٠٠٩ م) سؤالاً ؟

قال: تفضل.

قلتُ: إنك تقول عام ١٩٨٨ م في محاضرة حول الطبيعة البشرية (لولا التعاون لم يظهر المجتمع البشري، ولولا التنازع ما تطوّر المجتمع البشري)، ولو ضربنا مثلاً بمجتمع النحل، ومجتمع القرود وجدنا أحدهما متعاون، والآخر متنازع، ومع هذا لم يتطوّر أي منهما؟

طلب الوردي أن أنتقل إلى الجانب الأيمن؛ لأنّه يسمع بالأذن اليمنى فقط، ثمَّ قال: إنَّ مجتمع النحل، ومجتمع القرود متعاونان، متنازعان أما المجتمع البشري، فهو مختلف، وقد ورد في القرآن الكريم:

قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: ١٨٨ ـ ١١٩]

وقد ورد في الحديث: ( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِئَةِ  سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا )

وبيّن: إنَّ المصلح هو الذي يقود إصلاح المجتمع، وهكذا تدور الدائرة.

سألته  : هل من أمل في الإفراج عن كتابك (حول طبيعة البشر)

قال: لا. لقد أجرى معي سلام الشماع مؤخراً حواراً إستشهدتُ فيه بآيةٍ كريمةٍ تقول: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١٤) سورة الحجرات.

لقد حذف الرقيب هذه الآية مع إنّني قصدتُ الذين دخلوا في الإسلام من البدو، ولم يؤمنوا!

لقد حذفها الرقيب لأنه متشدّد.. حذفها وهي آية قرآنية.. امنعوا القرآن إذن !!

قلتُ للوردي :أحب أن أؤكّد لك :إنّنا من المتابعين لكلِّ أخبارك، ومحاضراتك، وكتبك.

قال: الله يخليك. وكان هذا آخر دعاءٍ سمعته منه.

وتركته في محلّ صياغة الذهب قريباً من ساحة باب الدروازة، وكان هذا آخر لقاء مباشر معه إلى وقت رحيله في ١٩٩٥/٧/١٣م، ووصيته أن يدفن في مقبرة جامع براثا.

بعد أيامٍ أعدّ القاص سعدي عوض الزيدي ملفاً عن الوردي بمناسبة أربعينيته، ودعاني إلى الكتابة فيه، فظهرت صفحةٌ كاملةٌ  في جريدة (العراق) في عددها الصادر يوم السبت الموافق ١٩٩٥/٨/١٩م، وكتب فيها مؤيد معمر.، وباسم عبد الحميد حمودي ، وسعدي عوض الزيدي ،  وكان موضوعي بعنوان (الوردي حين يغضب)، ولم أذكر فيه النقاط الحساسة التي تغضب السلطة.. وفوجئت بالتنويه إليه في إذاعة بغداد في برنامج استعراض الصحف، كما أنَّ مقدمة برنامج (الثقافة في الصحافة) في (التلفزيون الثقافي) ـ هل تتذكرونه؟ ـ أشارت إليه بإهتمام ، وقرأت فقرةً منه، وهذا كان محلّ سروري، واعتزازي في تلك المرحلة، لأنَّ هناك من يُقدّر الوردي، ومنْ يكتب عنه !

وتذكّرتُ قول الوردي: (الأنا محور الشخصية، فأنا أريد أن أتقن المحاضرة، فلماذا نغالط أنفسنا، ونقول: نريد الحقّ، والحقيقة ! فالراقصة حين تُسأل عن سبب رقصها تقول: للفن!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى