الحياة الأسرية والاجتماعية.. (طفولتي) مكسيم جوركي
رائد محمد الحواري | فلسطين
لو قرأنا السير الأدبية، نرى أن غالبية الأدباء يتحدثون عن طفولتهم وبتفاصيل دقيقة كما تحدثون عن شبابهم ونضجهم، فمرحلة الطفولة تبقى عالقة في الذاكرة ومؤثرة على الكاتب، من هنا يأتي كتاب “طفولتي” للأديب الروسي “مكسيم غوركي”، الذي خصة الحديث عن طفولته بكتاب مستقل، وهذا يؤكد على الأثر والاهتمام الذي تتركه مرحلة الطفولة على الإنسان/الكاتب.
المفاصل التي أثرت عليه، جاءت من خلال ضرب النساء، وقسوة الجد، والفقر، وقد تداخلت في الكتاب وتشابكت، حتى أننا مجتمعة هي من صاغ شخصية غوركي الأديب وصقلها، يخبرنا عن الفقر وأثره على الأمهات من خلال هذا الحوار الذي دار مع أمه:
“ـ لم يتخلى الناس عن أولادهم هكذا؟
ـ وقتما تجد الأم أن الحليب والطعام ينقصانها لتغذي رضيعها بهما، تفتش عن بيت ولد فيه طفل آخر ومات من توه، فتحمل وليدها إليه وتتركه هناك… الفقر أساس ذلك كله” ص41، أكيد هذا الفعل قاسي ومؤلم، لكن الروس فعلوه أيام حكم القصير، فتفشي الفقر جعل الأمهات يتخلين عن أطفالهن، لعدم قدرتهن على اطعامهم، وإذا أخذنا هذا الفعل ضمن مفهوم هذا العصر ـ رغم أن البعد الزمني بينا وبين الفعل، لا تتجاوز مئاتي عام ـ نراه فيه جريمة إنسانية، بحق الأم الفاعلة التي ترك طفها طواعية، وبحق الطفل الذي ترك، لكن الحالة الاجتماعية والاقتصادية جعلت هذه الجريمة (مقبولة).
الضرب
المجتمع الروسي الذي يسوده نظام الاقطاع، كان الضرب فيه فعل (عادي) ولا يثير الريبة أو الاستهجان، فالكل يضرب ويُضرب، لكن هذا الضرب كان متعلق بالنساء والأطفال تحديدا، فالرجل يضرب زوجته وأطفاله، دون أن يجد من يقول لا، أو ينتقد هذا السلوك المتوحش، والضرب أحيانا كان يؤدي إلى الوفاة، كما حدث مع خال “غوركي”: ؟…ويروح يضربها بوحشية، ليلة تلو أخرى، حتى توفت…لعه كان يضربها لأنها أفضل منه، تثير في نفسه الحسد منها، أن آل كاشرين لا يطيقون شيئا جيدا، يا صغيري، أنهم يغارون منه، ولما كانوا لا يستطيعون أن يحصلوا عليه لأنفسهم، فأنهم يدمرونه” ص51، إذن الضرب كان بدافع الحسد، وأي حسد؟، هل يحسد الزوج زوجته على نشاطها وعملها؟، لكن الفقر والجهل والمفاهيم الاجتماعية السائد (من حق الرجل ضرب المرأة)، لها اسهمت في قتل المرأة النشطة والفاعلية، وعلى يد زوج بليد خامل، ولا عقاب أو حساب، لا من النظام/الدولة ولا من المجتمع/اسرة الزوجة.
وهناك العديد من مشاهد ضرب الزوجات، فالجد كان يضرب الجدة، حتى أنها كادت أن تموت من شدة الضرب: “لقد ضربني مرة حتى أمسيت نصف ميتة، ثم حرمني من الطعام ه=خمسة أيام ـ وبأعجوبة نجوت من الموت في تلك المرة” ص68، وبعقلة الطفل يسأل “غوركي” جدته:
“أهو اقوى منك كثيرا؟
ـ كلا، ليس أقوى، بل أكبر سنا، وإلى جانب ذلك فهو زوجي، وقد أراده الله أن يتكفل بي، وأرادني على تحمل ذلك” ص68، إذن المفاهيم الاجتماعية والدينية تسهم في (قبول) وخنوع المرأة لمثل هذا السلوك المتوحش.
أما أمه فقد كانت تضرب من زوجها ويتلفظ بألفاظ بذيئة:
“.. ينعتها بعبارات شائنة قاسية تثير نقمة في أعماق قلبي…
ـ أنا لا استطيع أن أدعو أحدا إلى الدار بسبب انتفاخ بطنك، أيتها البقرة الشمطاء” ص251، هكذا كان حال النساء في المجتمع الاقطاعي، مما مهد لخروج ثورة قضت على كل هذه المظاهر المتخلفة والمتوحشة.
كثرة مشاهد الضرب التي تعرضت لهن النساء، جعلت الطفل يمزق تقويم الجد، احتجاجا على ضرب الجدة، ونكاية بالجد القاسي، وجعلته يبرر تمزيق التقويم بقوله:
“ـ فعلت ذلك عمدا، وإذا هو ضرب جدتي ثانية لأقطعن له لحيته” ص198، هذا تأكيد على أن الضرب كان له أثر سلبي على الأطفال والمجتمع والأسرة، لكن النظام الاجتماعي كان يعتبر الضرب سلوك عادي وطبيعي، حتى لو أدى إلى الموت أو الإعاقة الدائمة.
أما الأطفال فلم يكن حالهم أحسن من النساء، فكانوا يتعرضون للجلد وكأنهم مجرمين: “كان جدي، رأس الشر يجلدني بوحشية كلما بلغه أنني زرت ذلك المستأجر” ص149و150، وهذا جعل الطفل يأخذ موقف سلبي من الجد، الذي يمثل رأس السلطة الاجتماعية: “فأنا أخاف إله جدي وأكرهه، هذا الذي لا يحب أحدا، بل يسلط عينا على سائر البشر، وينصرف اهتمامه، قبل كل شيء، إلى اكتشاف الشر والخطيئة والرذيلة في الإنسان، وكنت أشعر بوضوح أنه لا يؤمن بالناس أو يثق بهم أبدا، بل هو ينتظر منهم دوما التوبة، ويبتهج كثيرا إذ ينزل عقابه الصارم بهم” ص124.
الفقر
بعد أن يفقد الجد املاكه يمسي الفقر هو سيد الموقف، وهذا انعكس سلبا على سلوك العائلة بكاملها، فأمه الحنون أخذت تضربه وتتعامل معه بطريقة لم يعهدها من قبل: “أصبحت تقتصر في حديثها معي، فلا تخاطبني إلا كي تصدر أمرا، أو تطلب إلي عملا ما:
ـ أجلب لي هذا، خذ ذلك، أسرع إلى المخزن.
.. وكانت أمي تضربني ضربا مبرحا عقابا لي” ص251، بهذا يكون الفقر والجهل هما أساس البلاء للمجتمع وللأفراد، الذي يأخذون في إسقاط غضبهم وحنقهم على من هم أضعف/أدنى منهم في السلم الاجتماعي/الاقتصادي.
الكتاب من منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، دون سنة نشر، ودون اسم مترجم.