قراءة لرواية زيارة أخيرة لأم كلثوم لعلي عطا
د. محمد سمير عبد السلام – مصر
إعادة إنتاج الهوية في النص السردي
“زيارة أخيرة لأم كلثوم” رواية حديثة للروائي، والشاعر المصري المبدع علي عطا؛ صدرت عن الدار المصرية اللبنانية سنة 2019؛ ويرتكز السارد – في علاقته بالشخصيات – على وعي البطل / حسين، وبنية الاستعادة لمجموعة من الذكريات، والأحلام، والتفاسير الشعرية الداخلية للكينونة من داخل نصوص الأدب، والشعر، والمزج بين مجموعة من الأحداث الشخصية، وتحولات البنى الثقافية في المجتمع منذ بدايات الثمانينيات من القرن الماضي حتى لحظة الحكي التي يرصد فيها السارد وفاة خالته أم كلثوم، وتفكيره في العودة إلى مصحة الكوثر النفسية؛ نحن – إذا – أمام رواية تقوم على التبئير الداخلي، واستبطان شخصية حسين من الداخل طبقا لتعبير جيرار جينيت، وإن تحقق المبدأ الحواري أيضا في النص في تعددية المروي عليهم؛ فالسارد / البطل يقيم حوارية مع صديقه طاهر، وأخيه ماهر، ومع المروي عليه غير المحدد في النص السردي طبقا لتوصيف جيرالد برنس؛ ليوحي بتجدد التواصل الإنساني حول المدلول الحكائي التفسيري للذات، ولبعض التحولات الثقافية التي قد ترد ضمن حديث السارد مباشرة، أو تدل عليها بعض المتواليات السردية الخاصة ببنية بعض الشخصيات، أو الفضاءات الهامشية التي تقع ضمن مجالات من التنازع بين البنى الثقافية، والتاريخية المتباينة في لحظة الحكي.
يبحث السارد عن إعادة إنتاج الهوية في النص السردي بوصفه مجموعة من المتواليات، والبنى، والوظائف المتقاطعة، والمتداخلة بين نقاط زمنية مختلفة تؤسس لتجدد مدلول الهوية السردية طبقا لتصور بول ريكور؛ إذ يمتزج فعل الحكي بالتفاسير النسبية لوجود الذات في العالم؛ ومن ثم تصير بنية الاستعادة المتواترة – في النص السردي – نوعا من التأويل الذي يقوم على الحوارية مع المروي عليهم، وتجدد الحدث في الاتصال بين الذات، والآخر من جهة، وإعادة إنتاج الهوية سرديا من خلال شعرية الاتصال بشخصيات الأدب، والواقع من جهة أخرى؛ فمثلما نعاين اتصال وعي البطل بشخصيات إيزابيل اللندي، وموراكامي، ومحفوظ، نجده أيضا يؤسس لاتصال الوعي بشخصيات هامشية فريدة؛ مثل صاحب مطعم العبقري، وشخصية الأب، والغريب، وعقل، وكذلك زوجته دعاء ونظائرها الأدبية، أو الحلمية في مستويات اللاوعي العميقة.
ويحيلنا السارد – في عتبة العنوان / زيارة أخيرة لأم كلثوم – إلى دلالات هذه الوظيفة السردية / الزيارة لخالته في كونها مفتتحا لمجموعة من المتواليات السردية المتداخلة، والمتقاطعة التي تشكل – في مجموعها – البنى التفسيرية للذات، وتحولات المجتمع؛ فخالته أم كلثوم قد أسهمت في تنمية حبه لقراءة الصحف؛ ومن ثم عمله في الصحافة فيما بعد، كما تتقاطع شخصية أم كلثوم مع أحداث الثمانينيات الصاخبة في مصر، وكذلك اتصلت – في وعي الجد – بأغنية الحب كدة للسيدة أم كلثوم؛ فحدث الزيارة يحيلنا إلى لمحات مقطعة من تاريخ أم كلثوم، والإعداد لجنازتها، وللتقاطعات السردية، وبنى الاستعادة، والتأويل التي ارتبطت باسمها، وبالحقبة التاريخية؛ وكأن الوظيفة السردية – في النص – تحمل ثقلا من التراكمات المعرفية، والأسئلة المتجددة عن الذات، والمجتمع، والعالم.
*إعادة إنتاج الهوية في النص السردي:
يعيد السارد / البطل تشكيل هويته من داخل فعل الحكي نفسه، وشبكة التقاطعات، والتداخلات بين المتواليات، والوظائف السردية التي لا تؤسس لإشارات تاريخية شخصية، أو اجتماعية؛ وإنما تتعلق بتشكيل الكينونة، وتحولاتها طبقا للعلاقات البنيوية الداخلية بينها من جهة، وعلاقتها المتجددة بنصوص الأدب من جهة أخرى.
ويمكننا الرجوع إلى مربع غريماس السيميائي؛ لاكتشاف التنويعات السيميائية، ودلالاتها في عمليات إعادة تشكيل مدلول الهوية، والفضاء، وعلاقة البطل العاطفية بزوجته دعاء بين الوعي، واللاوعي.
وقد رصد كل من غريماس، وفونتنيي – في كتابهما سيميائيات الأهواء – مجموعة من العلاقات السيميو- سردية التي تقوم على التعارض بين اتصالية الذات، ولحظات الانفصال، وبنى التناقض المحتملة فيما وراء هذا التعارض في المربع السيميائي / الدلالي؛ فالذات المتوترة – في النص السردي – يتجلى فيها مدلول العالم بوصفه قيمة، ولكن التعرف عليه يقتضي إيقاف الحركة المتصلة؛ فسوان – في البحث عن الزمن المفقود لبروست – كان كائنا عاديا بلا مشروع أو مثل حتى استمع لجملة نطقت بها فينتوي؛ وسوف ترسم هذه الجملة بوصفها شبكة من علاقات التضاد، والنفي، والتناقض، والتداخل بين بنى الاتصال، والانفصال.(1)؛ يؤكد غريماس، وفونتينيي – إذا – ثراء العلاقات البنيوية، ودلالاتها المرتبطة بالتحولات العاطفية في الشخصية الفنية، حين تنشطر بنيتها الاتصالية الأولى بموضوعات العالم.
ويمكننا أن نرصد مثل هذه اللحظة من التحول الانفعالي – في زيارة أخيرة لأم كلثوم لعلي عطا – في تحول السارد من لحظات الفتور التي أعادت إيه ذكريات مصحة الكوثر إلى إعادة إنتاج الذات سرديا، ومن خلال شعرية بعض شخصيات الأدب مثل أخيلة إحدى بطلات موراكامي، وعلاقة بطلة صورة عتيقة لإيزابيل اللندي ببنية الزمن المعقدة حين تسترجع الذكريات من داخل الصور، بينما يحاول بطل علي عطا استعادة الكينونة من داخل التراكمات التفسيرية السردية، والمعرفية المولدة من ذكرى زيارة خالته أم كلثوم.
يمكننا إذا تشكيل مربع غريماس السيميائي الدلالي المتعلق بعاطفة إعادة إنتاج الذات سرديا من خلال التعارض بين بنيتي البحث المستمر عن الهوية في تجدد فعل الحكي، وإمكانية تأجيل الروابط بين شبكات المتواليات السردية المتقاطعة في وعي البطل، بينما تتولد بنى التناقض الدلالية من خلال العلاقة بين كل من عدم التأجيل، وعدم التحقق؛ فعدم تأجيل الروابط بين المتواليات السردية المشكلة للهوية الذاتية يتحقق في السرد التاريخي الأدبي الذي يكسب الشخصية الفنية انفتاحا على شعرية النص، وتداخله الممكن مع التاريخ؛ ومن ثم يثير انعدام التأجيل تحققا مضاعفا سرديا لمدلول الهوية، بينما تشير بنية عدم التحقق – في لحظة النهاية – إلى دائرية الاتجاهات السردية المتعارضة التي تستعصي على الاتصال؛ وتؤكد بقاء التوتر الدلالي في إشارات السارد للمروي عليه، وتأكيده لبقاء شتات الرؤى، والأحلام، والذكريات، والتشكيل السردي الضمني للهوية أيضا؛ ويتشكل التخطيط السيميائي لهذه العلاقات في الشكل رقم أ.
*التوتر العاطفي إزاء شخصية / دعاء:
تتشكل شخصية دعاء الفنية – في وعي البطل – بين الحلم، والواقع، وترتبط بالتحول العاطفي من حالة الاغتراب أوالانفصال العاطفي الهادئ إلى التوتر بين بنيتي السلب، والعودة إلى وهج البدايات في مستويات اللاوعي العميقة؛ ومن ثم فشخصية دعاء تلتبس ببحث آخر عن الحب المؤجل بصورة موازية لبحث الذات عن الكينونة؛ إذ يظل البطل في حالة من التعارض البنائي الداخلي بين الاغتراب الظاهر، ووهج البحث الأول عن دعاء في الحلم.
إننا نعاين دعاء – في الواقع – ضمن علاقة انفصال عبثي رتيب، وصامت عن البطل، بينما تبدو صورها الحلمية صاخبة، وتتصل بتشكيل البطل لكينونته التي لن تكتمل إلا بوجود دعاء؛ وكأن الحلم يعيد تشكيل الأحداث بصورة ناقصة توحي بتواتر السلب، والفراغ الذي يدفع البطل إلى فعل الإكمال، أو التأويل السردي الخيالي.
ويمكننا تأمل دعاء في مجموعة من الصور الحلمية المقطعة في اللاوعي؛ مثل بحث البطل عنها في ليلة زفافهما مع علمه بوجودها بحوزة رجل عجوز، أو استمرار بحثه العبثي عنها، واقتران ذلك البحث الآخر ببحثه عن ملبس، وتعثره الدراسي، وتجسد صورة عقل بالحلم، دون مبرر منطقي(2)؛ ومن ثم تقع تجسدات دعاء بين اتجاهين عاطفيين متعارضين، يحتملان مجموعة من التناقضات التي يمكن وصفها سيميائيا، ودلاليا طبقا لمربع غريماس؛ فالبنية العاطفية الأصلية التي يحيلنا السارد إليها هي الانفصال، أوالفتور بينهما في الواقع، والتي تتعارض مع بنية استمرار البحث عنها في الحلم؛ وبخاصة في استعادة السارد لوهج البدايات المتكرر سرديا في اللاوعي؛ ونعاين أيضا بنى السلب التي تشير إلى علاقات التناقض فيما وراء ذلك التعارض الظاهر؛ فبنية لانفصال الأولى تفترض عدم الانفصال؛ والتي تتجسد في احتمالية تحقق البدايات بصورة فائقة تستبدل الحدوث الواقعي نفسه في عالم الحلم؛ وتحديدا فيما وراء لحظة البدايات المتكررة، والمؤجلة؛ وتفترض أيضا بنية الاتصال اللاواعي بدعاء دلالة أخرى؛ هي عدم الاتصال؛ وتتحقق حين يتضاعف الانفصال اللاواعي بينهما، ويقترن بوجود صور لشخصيات، وصور مبتورة، وغامضة؛ مثل طيف العجوز، وطيف عقل؛ ويمكننا التمثيل لذلك بالشكل رقم ب.
*الفضاء، وتعارضات البنى الثقافية:
يشير الفضاء – في رواية علي عطا – إلى تنازع مجموعة من البنى الثقافية التي تتداخل، وتتقاطع، وتتصارع في لحظة الحضور، وتومئ إلى دلالتي الأصالة، والآلية؛ ففضاء مطعم العبقري يقترن في وعي البطل، وطاهر بالبهجة، وأحاديث الثقافة، والفكر، وأصالة القيمة الإنسانية، بينما يشير فضاء مصحة الكوثر إلى الصراع بين انخراط مالكها في الإنشاد الديني وحلقات الذكر، ورغبته في تحويلها إلى برج سكني (3)؛ ومن ثم نعاين تكرار التعارض بين المكون الروحي التراثي غير الواعي، والعلاقات النفعية السائدة في المشهد، دون حسم واضح؛ وإذا تتبعنا العمق الدلالي لذلك التعارض في بنية الفضاء – طبقا لمربع غريماس – سوف نجد السارد يحيلنا في البداية إلى الحنين إلى مصحة الكوثر بوصفها محاولة للخروج من القلق، والشتات الداخلي؛ ومن ثم فهي تتضمن عاطفة تشكيل الهوية الذاتية، وتتعارض معها بنية التحول الثقافي، واستبدالها ببرج سكني محتمل في الواقع؛ ونعاين دلالة الغياب المضاعف لفضاء مصحة الكوثر في التحولات الطيفية السريعة للفضاءات الهامشية، والتي تتضمن الكوثر، وذكريات السارد التي يخشى ضياعها، أو تشتتها، بينما تتجسد بنية عدم تحقق ذلك التحول للمصحة في تناقضات الفضاء، وصاحب المصحة باتجاه الاستسلام غير الواعي لحلقة الذكر، وأثر الذاكرة الجمعية في تشكيل الوعي، وذاكرة المكان؛ ونمثل لذلك بالشكل رقم ج.
*فاعلية الهامشي /
تتداخل صورة الأب – في وعي السارد – باصالة هنومة الهامشية في فيلم باب الحديد ليوسف شاهين(4)؛ ومن ثم تتداخل الفنون في سياق تلك الأصالة؛ لتوحي بفاعلية الهامشي الخفية، وكذلك تظل صور الغريب / القفاص، وعقل، والبائع العبقري متواترة في وعي السارد؛ لتؤكد أيضا التعددية ما بعد الحداثية للنسبي، والهامشي في التأويل السردي للذات، والمجتمع، والعالم.
*هوامش/
(1) راجع، ألجيرداس ج. غريماس، وجاك فونتينيي، سيميائيات الأهواء، من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، دار الكتاب الجديد المتحدة ببيروت، لبنان، ط1، سنة 2010، ص 87، 88، 89.
(2) راجع، علي عطا، زيارة أخيرة لأم كلثوم، الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، ط1، سنة 2019، ص 92، 196، 198.
(3) راجع، علي عطا، السابق، ص-ص 126، 127.
(4) راجع، السابق، ص 34.