المناعة وسموم التلوث البيئي

د. فيصل رضوان | أستاذ وباحث التكنولوجيا الحيوية والسموم البحرية بالوكالة الأمريكية للمحيطات والأجواء (نوا) – الأستاذ الزائر بجامعة سوهاج

إن جسم الإنسان يضعف فى مقاومة الأمراض أكثر وأكثر، رغم الرفاهية والتحضر والتقدم الطبى. ما هى الأسباب وهل نتوارث الضعف؟ والى أى مدى؟

تُظهر الأبحاث الحديثة أن تعرض الأمهات بشكل دائم لأصناف شائعة ومنتشرة من التلوث الصناعي يمكن أن يضر بالجهاز المناعي للأبناء، وأن هذه الإصابات ربما تنتقل إلى الأجيال اللاحقة ، مما يضعف دفاعات الجسم ضد العدوى الفيروسية والميكروبات والأمراض بأنواعها.

إن القول المأثور القديم “أنت ما تأكله” هو محك أساسى وهام للعديد من جوانب صحة الإنسان. ولكن فيما يتعلق بقدرة الجسم على محاربة العدوى والأمراص، فإن الكثير من دراسات تسمم الجينوم البشرى الناتج من التلوث البيئى، قد تذهب بِنَا الى القول، وإلى حد ما، أنه “أنت أيضًا، ما أكلته جدتك “. فربما كل ما يدخل جسم الإنسان من غذاء وماء وهواء، وكل ما يحيط به من مؤثرات وضغوط جميعها تتناغم فى صنع النمو والصحة وينتقل نصيب منها الى الأحفاد.

وأظهرت الدراسات بما لا شك فيه، أن التعرض البيئي للملوثات، له تأثيرات كبيرة على وظائف الجهاز التناسلي والجهاز التنفسي والجهاز العصبي عبر أجيال متعددة، كما أنها لأول مرة تعطى دلالات مقبولة علميًا على أن الجهاز المناعي يتأثر أيضًا، ويزداد خمولاً، ويصبح اقل إستجابة للأمراض، عن ما كان عليه جنسنا البشرى قبل الثورة الصناعية.

ويمكن أن يساعد فهم هذا “الضعف المتوارث” عبر الأجيال في الجهاز المناعى في حل لغز الأختلافات ونواحي التناقض بين إستجابة الأفراد للعدوى؛ والتي نلاحظها بشكل واضح الآن فى ظل جائحة فيروس كورونا الجديد، وربما أيضًا، للكثير الامراض الوبائية الأخرى.

على سبيل المثل، قد نتعجب لماذا توفر القاحات والأدوية حماية لأشخاص أكثر من غيرهم؟ وخلال تفشي الوباء، يصاب بعض الأشخاص بمرض شديد، بينما يتمكن آخرون من محاربة العدوى والشفاء. وفي حين أن العمر والحالة الصحية وطفرات الفيروس وعوامل أخرى يمكنها أن تفسر بعض هذا الاختلاف، إلا أنها لا تفسر بشكل كامل تنوع الإستجابات للعدوى الموجودة في عموم السكان.

في دراسة شيقة ساندها المعهد الوطني الأمريكى لعلوم الصحة البيئية، عرّض الباحثون الفئران الحوامل لمستويات تلوث هوائى بمادة كيميائية تسمى الديوكسين Dioxin، وهي منتج ثانوي شائع للإنتاج الصناعي وحرق النفايات ، وقد توجد أيضًا في بعض المنتجات الاستهلاكية وتدخل نظام الغذاء وبتركيزات أكبر في المنتجات الغذائية الحيوانية. وراقب العلماء ثأثير هذا السم البيئى على كمية إنتاج، وكذلك وظيفة الخلايا التائية السامة Cytotoxic T-cells – وهي نوع من خلايا الدم البيضاء التي تدافع عن الجسم ضد مسببات الأمراض الغريبة، مثل الفيروسات والبكتيريا ، وأيضا تقوم طوال الوقت بالبحث والتدمير الفورى للخلايا ذات الطفرات الغريبة والتى قد يؤدى تركها إلى الإصابة بالسرطان. وجد الباحثون أن الفئران قد تعثرت صحيًا عندما تعرضت للضرر بالديوكسين. وقد أصبح سهلا إصابة فئران التجارب بفيروس الأنفلونزا عن غيرها الذى لم يتعرض للملوث الصناعى. ومع تتبع الحالة فى الأجيال، لوحظ ضعف الاستجابة المناعية ليس فقط في نسل الفئران التي تعرضت أمهاتها للديوكسين، ولكن في الأجيال اللاحقة، بما في ذلك القوارض التي تعادل أحفاد الأحفاد!

وحيث أنه لا يؤدي التعرض للضغوط اليومية لسموم الملوثات البيئية الى حدوث طفرات جينية بعينها، ولكنه يسبب تثبيط ألية عمل جينات ذات فوائد هامة. فى حالة الفئران هذه؛ فإن التعرض للديوكسين – الذي يربط بروتينًا في الخلايا بمستقبل خلوى AHR – يؤدى فى النهاية، وبطريقة ما يصعب شرحها بشكل بسيط، الى تشويه نسخ التعليمات الجينية المعهودة. وهذا يؤدي إلى تغيير الآلية الخلوية التي يتم من خلالها التعبير عن الجينات بشكل سليم، والتى تؤثر فى صنع دفاعات الجسم، ويتم نقل هذه الظاهرة إلى الأجيال اللاحقة.

وفى النهاية نود أن نشير الى أن التلوث البيئى، وليس الأمراض، هو السفاح الأكبر فى معظم الدول النامية، فهو يقتل بطريق مباشر أو غير مباشر أكثر من 10 مليون شخصا كل عام، أي ما يقرب من 3 أضعاف ضحايا الملاريا، 15 ضعف لضحايا الإيدز. ومع ذلك، يتلقى التلوث جزء بسيطا من إهتمامات دول العالم. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى