من إشكاليات الترجمة الدينية.. الترجمة والعقيدة عند غير السنة (16)
أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات جامعة جنوب الوادي
ذكرت سابقا مشكلة في ترجمة آية مختلف فيها عقائديا بين فرقتين من أهل السنة والجماعة، والآن أذكر آية أخرى، لكن الاختلاف فيها هنا بين المعتزلة وأهل السنة. وهي الآية السابعة والستون بعد المائة بسورة البقرة.. والجزء المقصود منها هو : (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم).
وقد تبدو الآية بسيطة، فهناك الفاعل (وهو الله عز وجل) وهناك المفعول (الذين اتبعوا – كما في صدر الآية: وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار).
المشكلة تبدأ بعد ذلك… هناك وجهان نحويان لبقية الجملة، وكل وجه منها يحمل اتجاها عقائديا… فعند أهل السنة والجماعة: تتمثل الأعمال يوم القيامة للعباد تمثلا حقيقيا لا يعلم كنهه إلا الله سبحانه وتعالى… لذلك -عندهم – تُجسم الأعمال يوم القيامة على الحقيقة، و(يريهم) يعني رؤية بصرية، فتكون (حسرات) حالاً منصوبةً لأنها حالهم عند رؤية أعمالهم. وهذا ما اختاره النحاس في إعراب القرآن.
الرأي الثاني، هو للمعتزلة الذين يرون أن الأعمال لا تجسد بل يحصل للناس إدراك لطبيعة أعمالهم السيئة، فتكون الرؤية عقلية وليست بصرية. وعلى هذا تعرب (حسرات) مفعولاً ثالثاً منصوباً بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم.. وهذا ما اختاره الزمخشري في تفسير الكشاف لأنه كان معتزلي العقيدة. ولأن فعل (أرى) ينصب في العربية ثلاثة مفاعيل..
إذن مرة أخرى: حسرات حال منصوبةٌ عند أهل السنة (حال الرؤية البصرية)، وحسرات مفعول ثالث عند المعتزلة (شكل الرؤية العقلية)…
ولاحظ أن كل صاحب رأي لا يذكر الرأي الآخر باعتباره أحد الاحتمالات القائمة؛ لأنه ليس مجرد إعراب نحوي، ولكن تصور عقائدي كذلك. لذلك لا يذكر النحاس وجها إعرابيا آخر، ومثله يفعل الزمخشري في الكشاف.
وسؤالنا الدائم: كيف ترجم مترجمو معاني القرآن هذه الآية؟ وهل أدركوا مغزاها العقائدي أم لا؟
عندما مشكلة أولية؛ وهي أن الإنجليزية ليس فيها أفعال تنصب ثلاثة مفاعيل بشكل مباشر، وإنما يكون هناك مفعول أول مباشر أو غير مباشر، ومفعول ثاني في شكل جملة أو شبه جملة.
ففي جملة مثل (أريته الحق واضحا) تقول شيئا مثل: I made him see the clear truth فيكون him المفعول الأول، وشبه جملة see the truth المفعول الثاني، ولا حاجة لثالث.
فأفعال (أعلم وأرى) العربية لا يوجد لها مقابل أفعال في الإنجليزية، ولكن يتوسل لها بتركيب make somebody see/ know/learn/ understand
إذن ماذا يفعل من يريد أن يؤكد على المفاعيل الثلاثة ليثبت رأي المعتزلة، يمكنه في هذه الحالة أن يؤول (الأعمال) نفسها، فلا يذكر أنها deeds ولكن يذكر عواقب الأعمال consequences كما سنرى:
Sahih International: Thus will Allah show them their deeds as regrets upon them.
Pickthall: Thus will Allah show them their own deeds as anguish for them.
Mohsin Khan: Thus Allah will show them their deeds as regrets for them.
Shakir: Thus will Allah show them their deeds to be intense regret to them.
Muhammad Sarwar: That is how God will show them their regrettable deeds.
Arberry: Even so God shall show them their works. O bitter regrets for them!
Khalifa: God thus shows them the consequences of their works as nothing but remorse.
Yusuf Ali: Thus will Allah show them (The fruits of) their deeds as (nothing but) regrets.
نلاحظ أن البعض استخدم تعبير deeds as regrets / anguish (الصحيحة الدولية – بكتول – محسن خان)، والبعض استخدم تعبير( to be intense regret ) وهو شاكير. والبعض استخدم الصفة للأعمال regrettable deeds وهو سرور.
ثم نجد أربري استخدم أسلوبا مختلفا، وهو أسلوب الندبة ووصف الحسرات regrets بأنها مريرة bitter
وأخيرا رشاد خليفة استخدم عاقبة أعمالهم consequences التي يشعرون فيها بتأنيب الضمير ،remorse ,وهو بذلك الوحيد الذي نص على أن الذي يُرى هو عواقب الأعمال وحدها دون الأعمال. وهو بذلك يتعمد مخالفة منهج أهل السنة، وهذا ليس بمستغرب على ترجمته واتجاههالفكري المنكر للسنة جميعا. ولاحظ أنه الوحيد الذي تجنب لفظ regrets أو مرادفها anguish و التجأ إلى remorse.
والحق أنه ليس من السهل التعرف على أي مذهب عقائدي اعتمد المترجمون المختلفون، فالواضح أنهم أهتموا بإبراز المعنى اللغوي بغض النظر عن المعنى العقائدي… غير أن يوسف علي ينفرد عن الجميع بذكر احتمالين، فهو وضع (thefruits of) بين قوسين قبل their deeds بمعنى أن الرؤية – بل الإراءة- ستكون إما للأعمال نفسها وإما لعواقب الأعمال ومآلاتها… وبذلك فإما أن تكون الرؤية بصرية للأعمال، أو عقلية لعواقب الأعمال، لكنه يعود ويضع بين قوسين جديدين (nothing but) فهو يؤكد أن الإراءة لن تكون سوى حسرات regrets فكأنه يؤكد بذلك على رأي أهل السنة، حتى لو كان هناك احتمالآخر أومأ إليه في البداية… ونظن أنه تردد كثيرا قبل هذه الصياغة ليحاول الجمع بين الرأيين..
والله أعلم..