لبنان.. حكومة ” تصريف أعمال خارجية “

توفيق شومان | خبير سياسي لبناني

لا أعرف الرئيس المكلف  بتشكيل  الحكومة مصطفى  أديب، ولكني سألتُ أصدقاء مشتركين  عنه وعن أحواله، فقيل إن الرجل خلوق وعصامي ومن الآكاديميين الأكفاء.

هذه سمات وميزات مطلوبة لرجال السياسة والإدارة في لبنان، بعدما عزَّ على اللبنانيين وندر، وجود رجال عصاميين وخلوقين يديرون شؤون البلاد  بعفة  ويتدبرون أمور العباد برأفة، فلا يُفقرونهم  ولا  يفجرونهم ولا يتحاربون بهم ولا يجعلونهم شحاذين طالبين للصدقات أو متسولين لتأشيرات الهجرة. 

رحم الله أيام زمان.. رحم الله فؤاد شهاب الذي كانت زوجته مدينة بثلاثمائة دولار لحانوت مجاور، وطلبت من الرئيس الياس الهراوي عندما زارها أن يسدد هذا المبلغ، كما يقول الهراوي نفسه.

الخلوقون هم من يحتاجهم لبنان لإنهاضه، فالإنهيار اللبناني هو انهيار أخلاقي أولا وأخيرا، فحينما انهارت أخلاق السياسيين انهار كل شي ، من الإقتصاد الوطني إلى النقد الوطني ، ومن ممارسة السياسات العامة إلى ممارسة السلوكيات العامة ، ومن الكلام الأنيق الذي كان يتميز به اللبنانيون إلى كلام السفلة وزعران الشوارع الذي بات سمة اللبنانيين وتعبيرا عن انحطاطهم. 

هذه بطاقة ترحيب بالرئيس الخلوق كما قيل لي .

لكن ثمة بطاقة أخرى تفترض نقاشا وجدالا في السياسة والقضاء والاقتصاد وما بين هذا الثلاثي بأركانه مجتمعة .

ـ 1: ـ في السياسة أولا :

في الشكل، تبدو تسمية الرئيس المكلف مصطفى أديب توافقا بين رؤساء الحكومة السابقين، وهذا التوافق أنتج توافقا مماثلا من قبل قوى سياسية أخرى، وإلى هذا الحد ينطوي الأمر على حُسن محمود ، ولكن ثمة من يقول ويروي إن اختيار السفير مصطفى  أديب بالإسم والمسمى، جاء من جانب الرئيس إيمانويل ماكرون عبر أكثر من مستشار رئاسي فرنسي  ضليع بالشؤون اللبنانية، فمصطفى أديب بحسب الفرنسيين، غير مستفز لأي من القوى السياسية اللبنانية، فعلاقته مع الرئيس نجيب ميقاتي ممتازة ، ومع تيار ” المستقبل ” حسنة ، ولا موقف سلبيا حياله من حركة ” أمل ” و ” حزب الله ” ، ولا يلقى معارضة من “التيار الوطني الحر” ، وفوق ذلك فهو السفير اللبناني في ألمانيا التي شكلت أرضية لحوار كان وحوار منقطع الآن بين طهران وواشنطن، وبحسب الرواة أن التقدير الذي يحظى به مصطفى أديب لدى الخارجية الألمانية، أملى على نظيرتها الفرنسية تنسيقا عاليا معها، لم  يكن الرئيس الأسبق للحكومة نجيب ميقاتي بعيدا عنه .

وعلى ذلك يمكن القول إن الفرنسيين “بحثوا ” عن رئيس للحكومة اللبنانية ووجدوه في ألمانيا، وهذا الرئيس يفترض أن تكون خارطة طريق عمله الحكومية، قائمة على أساس “الحكومة ذات المهمات  الفاعلة” ، كما يقول الفرنسيون أنفسهم، أي أن خارطة الطريق تلك، هي فرنسية، ابتداء من الضغوط التي مارستها فرنسا على اللبنانيين للتعجيل باختيار الرئيس المكلف، ومرورا بالورقة الفرنسية المثلثة الأضلاع حول الإصلاح والتحقيق الجنائي المالي، والحكومة المؤقتة، والإنتخابات النيابية المبكرة، وصولا إلى العقد السياسي الجديد، والحوار الوطني المفترض أن يسبق العقد العتيد .

وحيال ذلك يمكن القول إن الحكومة المقبلة هي حكومة من ” إنتاج فرنسي ” أولا، ولا ذم ولا قدح بذلك ، طالما الفاعلون متوافقون عليها .

ـ في القضاء ثانيا :

لا يمكن إغفال تداعيات كارثة الإنفجار شبه النووي الذي ضرب العاصمة اللبنانية ، بإنتاج حكومة ذات صناعة فرنسية ، وإلى جانب ذلك، لا يجب إغفال الأدوار الدولية في التحقيق بأسباب الإنفجار ، فالفرنسيون في مرفأ بيروت، والأميركيون كذلك، ومع الإثنين الألمان وغيرهم ، وهذا يعني أن مرفأ بيروت أصبح مدولا من دون الإشهار بذلك ، والحكومة الجديدة في حال كُتب  نصيب الولادة لها، ستتعامل مع ملفين : الأول: ملف التحقيقات المتعددة الجنسية حول انفجار المرفأ ، والثاني : إعادة الإعمار ، وعلى ما يظهر أن الإعمار سيكون للأوروبيين (وربما الأميركيون) يد طولى بخطوطه العريضة والدقيقة .

في القضاء أيضا، ليست مسألة عرضية تلك المرتبطة بالتحقيقات المالية الجنائية، فحين تسقط ثقة اللبنانيين ببعضهم بعضا ،  يلوح أمام  أنظارهم طوق النجاة الخارجي ، وبصرف النظر عن  نتائج التحقيقات  وما ستؤول إليها ، فلا شك  ان فقدان الثقة  يمثل ذروة التراجيدية اللبنانية من جهة ،  وذروة الطواعية والإستكانة إلى أحكام الخارج وتحقيقاته وقضائه . 

ـ في الاقتصاد ثالثا :

لا يخفى على أحد ، أنه قبل الإنهيار المالي والإقتصادي في العام الماضي، كانت رهانات الطبقة السياسية اللبنانية على عوامل ثلاثة لا رابع لها للحؤول دون الإنهيار، والرهانات الثلاث خارجية القوالب والركائز وهي النفط والغاز وإعمار سوريا ومؤتمر ” سادر “.

وإذ نوقش وجُودل كثيرا بخطأ الرهانات المذكورة ، لإرتباطها العضوي بالخارج وتقلباته وصراعاته ومناخاته السياسية والأمنية  المعقدة وتجاهلها قطاعات الإقتصاد الحقيقي داخليا ، فإن سقوط لبنان في قاع الإنهيار خلال صيف السنة الفائتة ، كشف عن هُزال اقتصادي في الداخل وعن خواء الرهان على قطاعات تحتاج إلى توافقات إقليمية ودولية لا تتوافر عناصر وجودها .

ماذا يبقى ؟

يبقى صندوق النقد الدولي وشروطه ، ويبقى مؤتمر “سادر” وشروطه المستجدة والمتضافرة مع شروط صندوق النقد، وبما يعني أن الإدارة المالية ـ الإقتصادية  اللبنانية ستكون خاضعة لآليات يشرف صاحب القرارالدولي على تنفيذها ، فصاحب القرار ذاك ، هو من يقرر قنوات وصول القروض والمساعدات المالية  إلى لبنان ، ونوعية المشاريع المنوي إقامتها ، وكيفية الصرف المالي ومراقبته .

بهذا المعنى، فالحكومة المقبلة هي حكومة ” تصريف أعمال خارجية ودولية “، في السياسة والقضاء والإقتصاد .

ألم يكن بالإمكان تشكيل حكومة بتوافق وطني صرف وخارطة طريق وطنية صرفة وبرنامج إصلاحي سياسي ـ اقتصادي وطني صرف  ومحض وبالمطلق ؟

من لديه توصيف آخر ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى