رواية “الدّجاجة التي حلمت بالطيران” ما وراء الأكمة (2 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

ثالثاً ـ موجات السرد:

فضّلنا استخدام تعبير (موجات السرد) على تعبيرات أخرى مثل حركات السرد أو دوائر السرد؛ لأنّ الأحداث جاءت تعاقبية تعاقُبَ الأمواج، فلا حركة ترتدّ إلى الخلف، ولا حدثَ يعيد النهايات إلى بداياتها، ويمكن للمرء في هذه الرواية أن يشهد الموجات السردية التالية:

  • الموجة السردية الأولى: الدجاجة في طريقها إلى الخارج.

تطالعنا في بداية هذه الرواية دجاجة لا تريد أن تبيض، لأن بيضها يذهب للبيع؛ لذلك تمتنع عن الطعام والشراب، وهو الأمر الذي أدّى إلى هزالها، فأخرجها المزارع من القن مع الدجاجات المحتضرة، وألقاها في حفرة خارج الحظيرة، وكان من الممكن أن يفتك بها ابن عرس الذي يبحث عن دجاجة محتضرة قبل أن تموت، ولكن فرخ البط البري المتشرد ينقذها، فتعود إلى الحظيرة غير مرحّب بها، فتغادر إلى حقل قريب، وتكتشف أنه “لم يكن بإمكان أي كائن حي ـ حتى الديك والدجاجة ـ في باحة الحظيرة التمتع بحقول واسعة كهذه”، ص51، وعندما تحاول العودة في المساء إلى الحظيرة يتصدى لها الكلب، فتفضل أن تبقى قريبة تحت شجرة الخرنوب الأسود.

الموجة السردية الثانية: البطة البيضاء: قصة الحب والموت:

 تدخل الموجة الثانية ها هنا بهدوء لتقوم البطة البيضاء كالثلج بدور محوري؛ إذ تقع مع فرخ البط البري المتشرد في شباك الغرام، ويحرّك هذا الأمر شبه غيرة في نفس إبساك التي افتقدت رفقة صديقها، غير أن ذلك لم يدم طويلاً؛ إذ إنها حين رأت أجمة ورد سمعت صرخة “كواك” ورأت كائناً بذيل يبتعد خلسة، (هو ابن عرس الذي افترس البطة المسكينة)، ثم حين اقتربت من الأجمة، ورأت أنها مناسبة لبناء عش، شاهدت بيضة فقررت الجثوّ فوقها، وصارت تحرسها حتى من فرخ البط دون أن تعرف أنه والد الفرخ الصغير الذي سيخرج منها.

الموجة السردية الثالثة: إبساك ترقد فوق بيضة البطة البيضاء:

تمتاز هذه الموجة بكشف خصّيصة الأبوة عند فرخ البط البرّي المتشرد الذي كان يحرس البيضة التي ترقد فوقها إبساك خائفةً من أن يَكتشف سرها (الذي يعرفه)، بل خائفةً “من أن يقوم فرخ البط البري بإخافة فرخها”، ص72،  على الرغم من أنه ظلّ يحضر لها سمكة كل يوم، ويحرسها كلّ ليلة، ولا يغادر أجمة الورد إلا في الصباح، بعد أن يعارك ابن عرس كلّ ليلة ويمنعه من الاقتراب: “كان فرخ البط يركض في بعض الأحيان وهو يصفق بجناحيه. اعتبرت إبساك الأمر غريباً؛ لأنه لم يكن يفعل ذلك في باحة الحظيرة”، ص71. وكانت تعترض على ضجيجه الليلي دون أن تدرك ما يجري، فتقول له: “كنت لطيفاً معي وأنا ممتنة لك، ولن أنسى فضلك ما حييت. لكنني وكما تعلم، أعتني ببيضة”، ص73. وقد استمرّ فرخ البط البري بحراستها وحراسة بيضتها، حتى نام بسبب السهر والإنهاك المستمر، وصار لقمة سائغة بين فكّي ابن عرس: “عبس ابن عرس وهو ينظر إليها بشراسة، بينما أطبق على فرخ البط البري بين فكّيه”، ص85، وفي الصباح التالي كانت هناك حياة جديدة لمولود جديد.

الموجة السردية الرابعة: الرأس الأخضر من الحظيرة إلى حقل القصب:

عندما فقست بيضة فرخ البط البري الصغير الذي أطلقت عليه إبساك اسم “بايبي” ولقب “ظل الرأس الأخضر”، عادت إلى به إلى الحظيرة خلافاً لتعليمات أبيه الذي طلب منها الذهاب إلى البركة مع فرخها الجديد، وهناك لم يقبلها أحد، خاصة الكلب ودجاجة الحظيرة التي أنجبت “ستة فراخ صفراء اللون، وقد كسا الريش أجسامها”، ص93، فـ”قررت ألا تترك باحة الحظيرة إلى أن يكتمل نموه بالكامل، ومهما كان ما ستقوله الطيور الأخرى التي ستهزأ منهما، لكن ذلك أفضل من أن يأكلهما ابن عرس”، ص95. وقد فوجئت إبساك بأن الديك يسمي ابنها فرخ البط الصغير، ولاحظت أن رجليه تمتلكان غشاء جلدياً، وبدأت بتحليل الأمور: “كنت جاثمة على بيضة البطة البيضاء كالثلج. كان المتشرد يعرف ذلك منذ البداية، وكان يعرف كذلك أنه على وشك أن يموت”، ص97. ولكنّ رغبة المزارع في قص جناحي الفرخ الصغير اصطدمت بحلم إبساك بالطيران حتى من خلال صغيرها، فقررت الهرب به إلى حقل القصب قرب البركة: “أيريدان قص جناحيه؟ هذا مستحيل”، ص103.

الموجة السردية الخامسة: فرخ البط الصغير يبطبط: 

ابتنت إبساك لها ولصغيرها عشاً في حقل القصب، وجعلته يتدرب على السباحة مع رئيس البط، ورفضت عودتها أو عودته مع أسرة البط إلى الحظيرة، وأحست بخطر ابن عرس فغيرت مكانها، وحفرت عشاً جديدا في منحدر يطل على حقل القصب، ولكن الصغير يريد أن يذهب إلى الحظيرة ليبطبط، على الرغم من أن الدجاجة عملت على إقناعه بالبقاء خارجاً: “إننا لا نمتلك أي سبب يا صغيري للعودة إلى المزرعة. فأنا دجاجة لا فائدة ترجى مني، أما أنت فتتفوق على كل الطيور هناك”، ص140. لكنه عاد، وعانى بعض الاحتقار، وربطته زوجة المزارع تمهيداً لقص جناحه، فبكته إبساك على البعد: “ظلّ الرأس الأخضر في الحظيرة مربوطاً إلى عمود بجانب القن، وبذل مجهوداً كبيراً كي يتخلّص من القيد، ولكن من دون جدوى، فانفجر بالبكاء، وبكت إبساك معه”، ص146. ثم هاجمت إبساكُ زوجةَ المزارع، بينما تريد نقله إلى داخل الحظيرة، فهرب طائراً إلى خارجها.

الموجة السردية السادسة: إبساك وصغيرها من الأرض إلى السماء

تدرك إبساك متأخرةً سبب نصيحة صديقها فرخ البط الراحل بالذهاب إلى البركة، وذلك حين يظهر سرب كبير من طيور البط البري، فصديقها كان يريد من ذهابها إلى البركة أن يلتحق الصغير بعائلته، وحين يحاول ترفضه العائلة، فيعود إلى أمه، ثم يقبله السرب حارساً بسبب رهافة سمعه، بعد أن افترست بنات عرس حارس السرب ومرشده.

وعندما يغادر سرب البط نهائياً مع صغيرها تغمض عينيها؛ ليداعبها حلم الطيران، فتقترب منها أنثى ابن عرس وتصطادها، لتكون النهاية التي يختلط فيها الواقعي بالخيالي: “حركت إبساك جناحيها الكبيرين والجميلين، وطارت وهي تنظر إلى الأسفل. أجل كان كل شيء تحتها. رأت البركة، والحقل الذي غطته العاصفة الثلجية، وأنثى ابن عرس التي كانت تسير مرهقة، وهي تحمل دجاجة نحيلة”، ص190.

وعلى الرغم مما أسلفنا فيه القول عن تعاقبية الحدث، فإن ثمة إشارات برقية غامضة تقدّمها الكاتبة إيذاناً بأحداث قادمة، فهي تقدّم الحدث من خلال مفردات تحتمل التأويل، ثم يكشف السرد فيما بعد حقيقتها، فأول تلميح إلى موت البطة البيضاء جاء في السياق التالي:

“ما إن اقتربت إبساك من أجمة الورود البرية حتى سمعت صرخة حادة ترددت أصداؤها عبر الحقول: كواك.. رأت إبساك كائناً يبتعد خلسة، ولمحت ما يشبه الذيل القصير والسميك، وهو يختفي من الأجمة الكثيفة”، ص62.

وحين رأت إبساك البيضة كان ذلك المشهد محمّلاً بالتشويق والغموض الذي سيشرحه السرد فيما بعد: “رمشت بعينيها عاجزة عن التصديق، ثم أرجعت راسها ونظرت مجدداً:

ـ يا لجمالها.

(…) كانت بيضة كبيرة وجميلة، لكنّ إبساك لم تر أحداً قربها”، ص64.

كما استخدمت الكاتبة الحلم بمعناه الرؤيوي، حين حلمت إبساك بأن تخرج من القنّ، وأن ترقد على بيض، وأن تصبح أماً، وأن تطير، ومن هذه الأحلام حلم اليقظة النهائية ما قبل الموت بين فكّي ابن عرس، وحلم يشبهه كانت قد رأته في يقظتها وهي في عربة الدجاجات الذاهبة إلى الموت في بداية الرواية: “رأت إبساك نفسها جاثمة فوق بيض في عش، وكان ديك شهم يسهر على راحتها، بينما تدلّت أزهار الخرنوب حولها مثل ندف الثلج”، ص27. و”جعلت إبساك نفسها تصدّق أنها تجثم فعلاً على البيض، وابتسمت فيما كانت تفقد وعيها”، ص27.

رابعاً ـ إبساك وامتدادها:

استخدمنا عنوان “إبساك وامتدادها” لدراسة شخصية إبساك وصديقها المتشرد، وابنه التي غدت أمه باحتضان بيضة البطة البيضاء، ونبدأ من شخصية الدجاجة إبساك التي نسجت هوانغ حولها مدار الحكاية، وقد بدت لنا دجاجة متميزة، سمّت نفسها بهذا الاسم لأنها تشعر بخصوصيتها وفرادتها في عالم لا يقيم وزناً للأسماء، ولأنه معنى هذا الاسم يحيل على الطبيعة وتجددها وحريتها:

  • “يعني اسم إبساك الورقة، وهي تعتقد أنه أفضل اسم في العالم، إذ تحتضن الأوراق نسمات الهواء وضوء الشمس، ثم تسقط على الأرض، وتفسح المجال لأوراق أخرى بالنمو مكانها”، ص14.
  • “أعجبت إبساك بأوراق الشجرة كثيراً، إلى حد أنها سمّت نفسها إبساك”، ص14.

وقد كان الترجّح بين القوة والضعف أظهرَ الصفات الجسدية لهذه الدجاجة: تضرب عن الطعام، فتضعف، وتأكل في سهول الحرية فتقوى، ثم يرهقها السهر والمطر فتضعف من جديد:

  • “أصيبت بالزكام بسبب تبلل ريشها على الدوام، وكانت نحيفة بشكل مختلف، لأنها كانت تبدّل مكان نومها كلّ ليلة من دون أن تحصل على ما يكفيها من النوم في الليل”، ص129.
  • “ازدادت إبساك قوة بالرغم من نحافتها”، ص130.
  • “أصبحت إبساك أكثر هزالاً من أي وقت مضى. فقد كانت تأكل ما يشبع جوعها فقط”، ص153.

وكان ضعفها يرتبط إلى حد بعيد بحذرها من ابن عرس، وكان لذلك أثر نفسي وآخر جسدي؛ إذ كانت حياتها خارج الحظيرة تتطلب كثيراً من الحذر؛ إذ لم تمكث مع صغيرها/ الرأس الأخضر  “في المكان ذاته ليلتين متتاليين، كما كانت (…) تتمكن من مراقبة ابن عرس وهو يعود خائب الأمل”، ص130، وقد كانت تشعر كل يوم بالجوع، حيث تزداد ضموراً بسبب انشغالها بالخطر الذي يمكن أن تتعرض له مع صغيرها في أية لحظة: “شعرت إبساك بالجوع، وهي التي لم تأكل أي شيء من أن انشغلت بمراقبة ابن عرس”، ص166.

وبالرغم من كل ذلك الهزال الذي عانته بين فترة وأخرى كانت تواقة للقوة، تحسد ابن عرس على قوته، وتتمنى أن تمتلك قوة أكبر منها: “ابن عرس، ذلك الصياد الرهيب! إنه يخيفني، وأنا أكره كثيراً؛ لأنه سلبني كل شيء ذي قيمة بالنسبة إلي. ليتني كنت أقوى منه”، ص113.

غير أنّ فقدان القوة في أي مرحلة من المراحل لم يعنِ أبداً فقدان الشجاعة، وقد أشار فرخ البط المتشرد إلى شجاعتها بينما كان يخاطب بطات الحظيرة: “لقد هربت هذه الدجاجة من حفرة الموت. هل تمكنت أي دجاجة أخرى من الخروج حية من تلك الحفرة سابقاً؟ لقد استطاعت هذه الدجاجة تسلق الحفرة بكل جرأة؛ بالرغم من أن عيني ابن عرس كانتا مركزتين عليها”، ص41.

وقد أصبحت أكثر ثقة بنفسها حين احتضنت البيضة، وحققت أمنية غالية من أمنيات حياتها، ولا سيما أنها عاشت الأمن والاكتفاء في ظلّ حراسة صديقها فرخ البط المتشرّد الذي كان يجلب لها سمكة كل يوم: “أنا بخير الآن، وأمتلك مخالب صلبة ومنقاراً قوياً”، ص74.

(يتبع)…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى