نظرة على فكر بوذا

 

سوسن صالحة أحمد | سورية – كندا
عن كتاب قصة بوذا لـ .. عبد العزيز محمد زكي

كان يقلق جوتاما (بوذا) تواتر الألم المرافق للحياة في المرض والشيخوخة والموت، هذا ما جعله يترك حياة القصور و الحكم وحياة الرغد والترف ليبحث عن طريقة (وهو المؤمن بالتناسخ) تخلص الإنسان من آلامه، لأن أي حياة لن تخلو من هذه الآلام سواء فعل خيراً أو شراً.
كان سعيه لإيجاد طريقة يتخلص فيها من الحياة بلا عودة لها، في أي صورة كانت، لأن التخلص من الحياة هو تخلص من المرض والشيخوخة والموت وبالتالي من الألم الذي اعتبره جوتاما هو السعادة وهو ما يتطلع إليه.
لم يجد جوتاما في الشعائر والمجاهدات الجسمية طريقا للسعادة ، فإذا كان اللهو والمجون والخلاعة لا تجلب الطهارة الروحية، فإن القلب الطاهر لا يمكن أن يعيش سعيداً في جسد معذب، كذلك هو معرض للمرض والشيخوخة والموت، وإذا كان تعذيب الجسد ينقي الروح من أشرار الجسد ويمنع الإنسان أن يولد في حياة أرضية مرة أخرى، إلا أنه سيولد في السماء، وجوتاما ينشد الخلاص من الحياة نهائيا سواء كانت على الأرض أو في السماء،
كذلك اعترض جوتاما على تحرر الروح من الجسد تحرراً تاماً يكفل لها الاندماج في براهما (الإله)، أي اعترض على هدف الديانة البرهمانية التي تؤمن بوحدة الوجود، وترى أن سلوك الإنسان يجب أن يهدف إلى تحقيق اتحاد الخالق بالمخلوقات، إذ ما هي ماهية الروح التي تبقى بعد أن تتحرر من الجسد، وكيف تخرج من الجسد، ثم تبقى شخصية الإنسان كما هي دون أن تتغير؟، فالنار عندما تفقد حرارتها لا تُسَمَّى ناراً، كذلك إذا خرجت الروح من الجسد لا يمكن أن يُسَمَّى الإنسان إنساناً، وإذا كان العارف ببراهما يمكن لروحه أن تتحرر من البدن أن تبقى في براهما، إذا كيف تبقى شخصية العارف في براهما في الوقت الذي تحطمت فيه ذاتيته؟، لأنه حين يندمج في براهما لا يكون هناك حقيقتان منفصلتان، حقيقة معروفة وحقيقة عارفة، وإنما حقيقة واحدة هي براهما، وكيف يكون إذا براهما حقيقة معروفة في الوقت الذي تذوب فيه شخصيات عارفة؟، هكذا لن تتخلص الروح من الجسد نهائياً دون أن يقضي ذلك على ذاتية الإنسان؟، أو أن يبقى ما يؤكد شخصيته إذا ما تلاشى نهائياً في براهما، وهو هكذا يشك أن الشخصية الذاتية تبقى في النهاية، مما يرجح وجود ولادات جديدة، وهو ما يريد التخلص منه نهائياً.
كذلك لم يقتنع جوتاما بأن هدف الزاهد هو تخليص إنيته من المادة حتى تقتصر على فكر أو لا فكر ثم لا يبقى لها وجود، فلاتعود إلى الحياة من جديد وتظل على الدوام متحدة ببراهما، ولم يقتنع بأن شخصية الفرد أو إنيته الذاتية يمكن أن تزول زوالاً تاماً في براهما، واعتقد أن لها على الدوام مستقبلاً يدعو إلى عودتها إلى الحياة من جديد.
كانت هذه ثلاثة مراحل مر بها جوتاما في ترحاله عبر الجبال والغابات ومن وخلال لقائه مع متنسكين صادفهم جوتاما وعرضوا فكرهم في الخلاص عليه وأطلعوه على مسلكهم في درب المعرفة والحقيقة.
وهكذا وجد جوتاما نفسه لا يعرف شيئاً عن طريق الخلاص وسبيل السعادة الذي هجر الدنيا وترك الملك من أجله، فسلك سُبُلَ المجاهدة المنتشرة بين عامة النُسَّاك، أخذ في تعذيب جسده وتجويع نفسه، واستجداء لقمته،وفرض حركات جسدية معينة يثبت عليها لمدة طوية من الزمن، حتى ذاع صيته وصار له مريدين، واستمر في ذلك حتى نحل جسمه وضمر، وهزل قوامه، وبرزت عظامه، وخارت قوته، وبعد ست سنوات من العناء وجد أنه لم يصل إلى شئ، ولم يتنور ذهنه إلى طريق السعادة عن طريق تعذيب نفسه، وخطر له.. إن قسوة المجاهدة تشل التفكيروتُميت الحيوية، وتعطل أي نشاط، فأكل حتى استعاد حيويته، وانفض عنه مريدوه بعد رأوه يأكل بخيبة أملٍ فيه، وتبدل تعظيمهم احتقاراً لأنه أقبل على الطعام.
وكاد يصيبه اليأس، وفكر بترك ما هدف إليه، إلا أنه استجمع قواه وجلس تحت شجرة تين جلسة القرفصاء، مصمما على أن لا يغادر الشجرة وجلسته تلك حتى ينكشف له طريق النجاة أو الموت.
بقي جوتاما على حاله بجلسة القرفصاء وتحت الشجرة رغم المطر سبعة أيام بلياليها،لم يثنه عن عزمه حنين لأهل ولا نوء طبيعة، وفي مساء الليلة السابعة اتضحت لجوتاما حقيقة الحياة وأصبح بوذا ( المستنير).
وكانت فكرته أن الجهل هو سبب الشقاء وعلة العودة إلى الحياة، فيجب البحث عن المعرفة الحقة التي تمحو الجهل للتخلص من الآلام، لأن القضاء على الآلام فيه قضاء على النتائج، والقضاء على الجهل فيه قضاء على شتى صور الألم، والمعرفة الحقة هي التي ترحم من قسوة الآلام، وتتكون المعرفة الحقة لديه من أربع حقائق هي:
1_ الحياة تقوم على الألم.
2_ علة الألم هي التعلق بشهوة الحياة.
3_ استئصال رغبة الحياة فيها استئصال للألم.
4_ اتباع الطريق المُثَمَّن كفيل بالقضاء على حب الحياة.

ولكي تحقق هذه الحقائق النتيجة المَرجُّوَّة منها يجب أن يعرفها الفرد بمطلق حريته دون فرضها عليه، لأن من يُجبَر على معرفة لا بد يراوده شك فيها، كما أن مجرد المعرفة والاعتقاد بصدقها لا يكفي للتحرر من توالي الولادات، لأن هذه بداية طريق الخلاص، وأن التزام الطريق المثمن هو الذي ينجي من الآلام، وشعب هذاه الطريق هي:
1_ العقيدة الصادقة.
2_ النية الصادقة.
3_ القول الطيب.
4_ الفعل الحسن.
5_ العيش السوي.
6_ الجهد القيم.
7_ الوعي السليم.
8_ التأمل الصالح.
لم يجد بوذا أفضل من عقيدته التي تقوم على الحقائق الأربعة وعدم الارتباط بوجود الروح الفردية أو الروح الكبرى، رغم إيمانه بالتناسخ إلا أن الذي يتناسخ لديه هو الكارما وليس الروح، لأنه أصلاً لا يؤمن بوجودها، والكارما هي مجموعة النتائج المترتبة عن سلوك الفرد في ولاداته السابقة، فيعود كل مرة بصورة أفضل أو أسوأ حسب أفعاله في الولادات السابقة وليس ان تحل روحه في جسد آخر، هو هو يعود حسب أفعاله.
فالكارما هي التي تتناسخ وليست الروح، والقضاء على الكارما يمنع ظهور الإنسان في صورة من الصور الحية، وهكذا يرتاح من آلامه المرتبطة بالحياة إذ هو في موت دائم في العدم.
الجدير بالذكر أن بوذا يعتبر الحياة الصالحة السوية في اتباع تعاليمه التي تعين الإنسان على اتباع طريق وسط لا يتمادى فيه في طلب الملذات الحسية ولا يُغالي بتعذيب الجسد، فلا يقوم بصلوات أو يؤدي عبادات ولا يهتم بأي نوع من أنواع الطقوس والشعائر ولا يضيع وقته في طلب رحمة أو معونة رب، ولا يعتمد في تحقيق مآربه إلا على أفعاله فقط لا غير، ويحول كل جهده إلى تطهير فكره وتصفية ذهنه فلا يدع للشر سبيلاً إلى عقله، ولا يأل جهداً في إشاعة الخير في طيات الفكر حتى يشمله من كل جانب.
حينئذ يبلغ الإنسان مرتبة من الوعي السليم الصالح فيستطيع التحكم في الانفعالات الجامحة والمشاعر المضطربة والرغبات الملحة والأفكار الشريرة، هي تلك درجة الطهارة التي يكون فيها الذهن صافياً صفاءً تاماً فيقدر على تنقية عقيدته من الشكوك والريب، حينئذ يقوى الإيمان بالحقائق الأربع وقوة الإيمان تدفع للتخلص من النقائص والعيوب، حينها يُتاح للذهن الصافي التأمل في الحقيقة تأملاً خالياً من كل مؤثر خارجي ولا تعوقه رغبة ولا تعرقله شهوة، يسير في الطريق المُثَمَّن حتى تنقطع صلته بالوجود ولا يولَد على الإطلاق في الأرض أو في السماء، ويصل إلى النيرفانا حيث الهدوء المطلق والسكينة التامة، والراحة الكاملة، حيث لا ألم، لا فرح، لا شهوة، تنعدم الرغبات وتتلاشى الحواس في سلام دائم ورضا متواصل.هذه ثمرة سير الإنسان في الطريق المثمن وقد يحتاج هذا عدة حيوات للإنسان عبر آلاف السنين، وفي كل منها يكون قد عمل على التخلص من النواقص العشر، وهي:
الوهم.
الشك.
العمل لكسب القوت.
الشهوة الجنسية.
الكراهية والحقد.
حب الحياة الأرضية.
الرغبة في الحياة السماوية.
الكبرياء.
الغرور.
الجهل.
يمكن للإنسان التخلص من النواقص العشر بعد أن يمر بأربع مراحل:
هجر الحياة وقطع الصلة بالمجتمعات واستجداء الطعام وعدم اللجوء إلى عمل يقتات منه أو يعود عليه بالفائدة بينما يضر الآخرين
ثم التخلص من كل الأوهام التي غرستها شتى الديانات في العقول حتى لا يشك بتعاليم بوذا أو يثق بأثر الشعائر الدينية ، وتقريب القرابين للآلهة في تحرير الإنسان من الآلام.
فمن يُضعِف رغباته وشهواته وأحقاده ربما عاد إلى الأرض مرة واحدة، ومن قضى على الشهوة الجنسية والنزعات الشريرة فلن يرجع إلى الأرض وقد يعيش في السماء، أما من تخلص بمجهوده الخاص من كل الرغبات، حسية أرضية سماوية، وتحرر من نواقصه، فإنه لن يرجع إلى الأرض ولا إلى السماء، إنما يبلغ النيرفانا، فيخرج من نطاق الألم والسرور ويصبح فوق الأحزان والأتراح، ولا يفعل ما يربطه بالحياة، فيعيش في هدوء تام في الخير المطلق وفي الحكمة السرمدية.
لم يختلف طريق بوذا عن طرق الديانات الأخرى المعاصرة، إلا أنه لم يُقِم وزناً للشعائر ، وضحى بوذا بالروح لأنه يعتقد أن الإيمان بها قد يقف حائلاً بينه وبين النيرفانا ، وضحى كذلك بالروح الكبرى لأن عقله لم يفهم كنه هذه الروح وطبيعتها ولم يدرك كيف تتحد بها الروح الفردية وتبقى حاملة لخصوصيتها، لذا أنكر أن الإنسان مكون من روح وجسد، إنما من جسد ومجموعة كيفيات مختلفة تتجلى في:
1_ الصفات المادية_ وهي العناصر الأربعة_ ماء تراب هواء نار، وأعضاء الحس الخمسة، وكيفيات المادة الأربع (شكل صوت رائحة ذوق) وعوارض مادية أخرى(مكان حركة تبدل تآكل تغير …)
2_ الحواس _ وهي ستة.. الخمس المعروفة، والسادسة هي التذكر.
3_ الأفكار المجردة_ وهي الصور الذهنية التي ترد إلى الذهن عن طريق الحواس.
4_ الميول والاتجاهات الفطرية_ صفات الفرد (ذكاء غباء أنانية استقامة …).
5_ الفكر_ وهو القوة العاقلة الواعية.
هذه الكيفيات الخمس تشمل الجسم وأعضاءه وقواه الحسية والشعورية والعقلية ويس بينها ما هو ثابت ولا تُخفي وراءها مبدأ يقومها يُدعى الروح.
وليس للعناية السماوية سلطة، وسلوك الإنسان فقط هو من يعاقبه ويثيبه.
فالمادة تتغير، والحوس تابعة للإدراك
فعلى هذا كل شئ في الإنسان متغير وليس فيه شئ ثابت يدعو للاعتقاد بأن وراء كل ذلك شئ ثابت يُقَوِّم كل ذلك، ومن هنا لم يعترف بوذا بالروح الصغرى ولا الكبرى، والإيمان بها يعيق تحرير الإنسان من الحياة.
عجز بوذا عن إيجاد الروح الكبرى وزعم أن الجدل في سبيل التدليل على وجودها ضرب من العبث لا يثير إلا مشكلات لفظية ونوعا من الحوار لا يؤدي إلى حقائق ثابتة.
وبوذا الذي يؤمن بالتناسخ ولا يستطيع إنكاره لأنه عقيدة شعبية راسخة في الهند أحس في داخله بأنه عاش قبل ذلك مرارا وكثيرا ما كان يذكر قصصا حدثت له في حياة سابقة، والتناسخ بالنسبة له كان موجها ورائدا في طلب المعرفة والسعادة، واعتقد أن الذي يتناسخ هو الكارما والتي هي مجموعة النتائج المترتبة على سلوك الفرد في ولاداته السابقة وهذا يشمل الإنسان والحيوان والملائكة، والإنسان في حياته الحالية هو نتيجة حتمية من أفعاله في حياته السابقة، لذا عليه أن يتحمل ويكون مسؤولا عن حياته الحالية مسؤولية تامة، وليس للقدر أو الحظ دخلا بها، وليس للعناية السماوية سلطة، وسلوك الإنسان فقط هو من يعاقبه ويثيبه، تلك الأفعال التي كونت لديه الكارما والتي بالقضاء عليها يمتنع عن ظهوره في أي صورة من الصور الحية، وبالتالي عليه القضاء على الكارما، والسبيل الوحيد لذلك معرفة الحقائق الأربعة وعدم الاعتراف بوجود الله والإيمان بأن الكارما هي التي تتناسخ وليست الروح واتباع الطريق المثمن حتى يتحقق النرفانا بعد تناسخ الكارما في حيوات كثيرة والتردد ما بين الأرض والسماء أحقابا طويلة، وللكارما عند بوذا حالات ثمانية..
_ الإحساس بالصور والأشكال
_ فقدان الشعور بصورته الذاتية مع عدم الإحساس بالأشياء الخارجية
_ لا يدرك إلا المعاني الكلية للصور والأشياء
_ حال يتلاشى فيه الإحساس بكل ما هو جزئي وينعدم الإدراك بكل ما هو فردي ويدرك فيه حقيقة المكان اللانهائي بأنه غير محدد بصورة أو معين بشكل.
_ يستولي عليه الشعور اللامتناهي وهو شعور غير مقيد بإحساس معين أو بإدراك خاص.
_ ينتقل إلى حالة اللاشيئية حيث لا يدرك أي شئ على الإطلاق.
_ ينعدم الإحساس بكل ما هو جزئي أو كلي على حد سواء ويتلاشى الإدراك بكل ماهو جزئي وكلي على حد سواء.
_ ينتقل إلى حاله يتساوى فيه الإحساس مع عدمه ولا يتمايز الإدراك عن عدمه وهو حال النرفانا.
ومن يصل إلى النرفانا لا يأتي من الأفعال ما يسبب عودته إلى الحياة، فهو لا يأتي خيرا حتى يثاب عليه أو يقترف شرا حتى يعاقب عليه ويمتنع السبب الذي يبعث الحياة، فيفلت من دائرة الولادات لأنه حطم قوى الشهوة التي ترغب في متع الأرض ونعيم السماء، فهلكت الكارما وزالت قوة بعثها للحياة، ولا يولد بعد ذلك أبدا…
هكذا وصل بوذا للاستنارة التي هي نهاية مطاف كل طالب للخلاص من الآلام لأنه لن يولد بعد هذه الحياة ولأنه بلغ آخر مراحلها حيث لا شئ على الإطلاق وحيث العدم الذي ليس بعده وجود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى