طبّاخ أعراس ـ قصة قصيرة
خالد جمعة | فلسطين
أبو حامد داوود، كان طباخ أعراس، كان هذا أيام “البلاد”، هذا كان يعطيه فرصة لأن يعرف كل تفاصيل قريته والقرى المجاورة، كان كريماً إلى حد أنه كان يزيد في كمية اللحم من جيبه الخاص إذا كان العريس فقيراً، ويرفض أن يأخذ طعاماً مما يطبخه إلى بيته زيادة على أجره، لم يكن أحد يعرف اسمه الأول، فقد أطلق عليه لقب أبو حامد منذ كان في الكتّاب مع الشيخ علي غندرة، وظن الجميع وقتها أن هذا هو اسمه الحقيقي، وبالمناسبة لم يكن لديه “حامد”، وهذا ما يزيد الأمر تعقيداً عند من يحاول استقصاء اسم أبي حامد الحقيقي، أما لماذا أصبح أبو حامد مهماً كي تكتب عنه قصة، فهذا أمر جدير بالرواية.
على عكس الفلسطيني الذي تشهره صورة موته، أو دخوله السجن، كان أبو حامد محايداً تجاه الأشياء، حتى أنه قبل النكبة كان يقبل أن يذهب ليطبخ في أعراس اليهود الذين يسكنون جوار قريته، كان يشكو من كثرة السمن الذي يضعونه في طعامهم، لكنه كان يضع لهم ما يريدون، وكان يقول: ذبح اليهود حلال أكثر من ذبحنا.
الذي حدث فعلاً، هو أن قوات من الهاغاناة دخلت قرية أبي حامد في يوم عرس، كان ينصب القدور ويشعل حطباً كثيراً لأن العريس كان ابن المختار، وحين بدأ إطلاق النار في القرية، دخلت أول رصاصة في القدر الكبير، وانطفأت حين لامست الماء فلم تصل إلى جسد أبي حامد، وتفرق أهل القرية يساراً ويميناً، وظل أبو حامد واقفاً يحاول رتق الفتحة التي أحدثتها الرصاصة بقليل من العجين الممزوج بالماء، حتى يكمل طهي الطعام، لأنه كان قد أخذ أجره سلفاً، حتى بعد أن أصيب بشظية رصاصة في قدمه، ظل واقفاً والماء يفور حول اللحم، وفجأة هدأ إطلاق الرصاص، ولم يعد أحد يسمع صوتاً لشيء، اللهم إلا دعسات جنود الهاغاناة على مصطبة بيت المختار، بعد أن فرغت القرية من ساكنيها، ولم يعد هناك من يأكل ما في القدور.
في اللحظة التي كان أحد الجنود يصوب بندقيته باتجاه رأس أبي حامد من وراء شجرة الكينا العتيقة، التي حمت أبا حامد من الرصاص الطائش ـ سيكتشف هذا لاحقاً ـ، وقف جندي قصير ومدجج بالقنابل ليمسك بندقية القناص من فوهتها ويرفعها إلى الأعلى، ويصرخ بصوت عالٍ بالعبرية التي تعلمها حديثاً: هذا أبو حامد، يطبخ أشهى ما يمكن أن تذوقه في حياتك، دعونا نأخذه ليعلمنا كيف نطبخ طعاماً يمكن أكله، وبهذه العبارة نجا أبو حامد من موت كان على بعد إصبع من أنفه، لقد عرفه الجندي لأن طعم أكلة أبي حامد ما زال صداها يتردد في فمه حين دعوه مرة إلى الطعام بصفته جاراً وليس جندياً في الهاغاناة.
ما زال أبو حامد يعيش هناك إلى اليوم، لكن كتاباً أعده صحفي إسرائيلي عن الأكلات الإسرائيلية، سيكشف بما لا يدع مجالاً للشك، بأن أبا حامد، وبعد مرور كل تلك السنوات، لم يعطِ أسرار الأكل الفلسطيني للجنود الذين أسروه، ولا لمن عمل معهم بعد ذلك، فدائماً كان هناك شيء ناقص في الوصفة التي يقدمها لهم، مما يجعل المجدرة ليست هي المجدرة، والمسخن ليس هو المسخن، وورق العنب ليس هو ورق العنب، ولا المقلوبة هي المقلوبة، لم تكن المسألة مسألة “نَفَسْ”، بل ببساطة كانت مسألة وصفة ناقصة تعمدها أبو حامد رغم سذاجته الريفية.
بعد سنوات، سيكتشف الإسرائيليون الفرق بين الأكلات الأصلية وتلك الأكلات التي علمهم إياها أبو حامد مجبراً تحت تهديد السلاح، سيكون ذلك في مؤتمر عالمي كبير، ستحاول فيه إسرائيل أن تثبت أن هذه هي أكلاتها الأصيلة، وسيهدم مشروعهم ولد كان أبو حامد قد لقنه كل الأسرار وأوصاه أن لا يبوح بها إلا حين تكون الحاجة إليها ماسة مثل حاجة المرء للهواء، لكنه وقتها سيكون ميتاً، ومدفوناً في قبرٍ بعيد، ليس عليه أية إشارة تدل على صاحبه، فقط هذا الولد هو الذي سيبوح باسمه بفخامة ملكية، ولن يعرف أحد من الذين سيوجدون يومها في المؤتمر إن كان أبو حامد حقيقةً أم خيالاً، لكن الفرق بين الأكلات سيقول إن احتمالاً كبيراً قائماً بأن تكون قصة أبي حامد حقيقية أكثر من أي واقع آخر.