شعرية النص في ديوان (الخيل والرماد) للشاعرة حصة البادي

     أ.د. ثابت الآلوسي | ناقد وأكاديمي عراقي 

   يمكن القول إنّ ديوان (الخيل والرماد) الصادر عام 2012 للشاعرة العمانية المتميزة حصة البادي من أبرز الدواوين المهمة في سلطنة عمان وفي منطقة الخليج العربي خلال السنوات الماضية، لما تتمتع به قصائدها من شعر لهُ عالية  وأسلوب متفرد لا يتشابه مع أي أسلوب آخر.

   أغلب قصائد الديوان تنطلق من تجربة عميقة أنتجت نصوصا مدهشة قائمة في الغالب على بنية التقابل والتضاد بين الماضي والحاضر بين الريف والمدينة الصغيرة حيث الألفة والنقاء وبين حاضرها في مدينة لندن التي سافرت إليها للدراسة حيث العزلة ولا مبالاة الآخر و رتابة الحياة، حتى عنوان الديوان يشير إلى تلك الثنائية، فالخيل مرتبطة بأجواء القرية وقيم المدينة الصغيرة والصحراء وبين الرماد الذي يرمز إلى اللامعنى والكآبة والانكسار لقد سافرت إلى لندن يدفعها حب المعرفة واكتشاف جماليات مدن البحر الكبيرة تقول في القصيدة  (من مأمن يؤتى الغريب): (سرب النوارس واقتناص واقتناص حقيقة الأشياء غرر بي وغرر بي فضولي لاكتناه البحر …) ص10

في حين هي ابنة الريف والصحراء، مازالت تعيش أجواء الألفة والبساطة والحياة الأسرية الدافئة. (وأنا أناي قبائل ، لما تغادر أرضها الأولى ولما يأتها وجه الخلاص) ص10  

 (بلى و رغيفنا الغالي يصافحه

ندامى الخيل والبيداء والليل

بلى وحنين نوق البيد ليس يحده أحد )) ص31

غير أنها فوجئت في هذه المدينة بما لم تتوقع القسوة و اللامبالاة وانكسار الحلم والعزلة:

 (في أرض غريبة

لا يباع الحلم بالمجان

لكن بانكسار الروح في جيب الغريب

من مأمن يؤتى الغريب …) ص12

مستثمرة التناص مع المثل العربي المشهور ((من مأمنه يؤتى الحذر)) بكسر الذال، بعد تغييره باستبدال مفردة الحذر بمفردة الغريب، مشيرة إلى أنها ربما وقعت في الفخ الذي لم تنتبه إليه :

 (( أنا الصحراء

تشبهني الجبال بعزلة الصعلوك

صمت مُوّلهٍ يبكي

ربابابة الجوى المجنونِ والتعبِ

  واشبهها ندى واباء … ))  ص33

لكنها بهذا الرحيل خسرت الكثير، الألفة والمحبة وصفاء العلاقات غير أن مدينة لندن تبقى عظيمة برغم ما فيها من متناقضات وانكسارات وقد يأتي يوم ليس بعيدا لاكتشاف بعض ما فيها من إشراق

(مدينة لون العبور اللذيذ، ووقع ارتطام الأس بالهديل

ومزج انسكاب الرؤى في الزحام …   ص13

تنامين في القلب أخت الضباب، ستكبر في البعد أوجاعه

ويحنو على الدمع غيم ضباب، ولابد لابـد

لابــد أن سيحنو على المتعبين الضباب …)   ص18

لذلك نجدها تسارع في تعزية نفسها، بأنها ستعود قريبا إلى قريتها ومدينتها الصغيرة الرائعة (البريمي) مستثمرة التناص مع قصة قميص النبي يوسف في القرآن الكريم، غير أنها هنا كانت أكثر تفاؤلا بالعودة

 (( سأعود إني باخع كبدي على آثار

سدرتنا التي شاخت بقلب بعيدكم

هلا ضممتم سرها وأتيتم بالشيخ

طقسا للإياب / سأعود ذاك قميصي

المخبوء ألقوا ريح وجدي للبلاد ))       ص 79

تستخدم مفردات ذات طابع تراثي (باخع كبدي) أي قتلت نفسي غيظا وغما، والشيخ نبات صحراوي مشهور لقد كانت تجربتها العميقة المتدفقة التي لا تهدأ بين ماضي الشاعرة الذي ملأ حياتها، وبين حاضرها الكئيب في لندن ودوران أغلب قصائدها للإمساك بتلك البهجات الهاربة عبر استحضارها من منافذ الذكرى كان العنصر الأول في منح قصائدها ذلك التوهج .

أما العنصر الثاني الذي رفع نصوصها الى منطقة الشعر الجميل، فهو طاقة التدفق والانسياب التلقائي للمشاعر والأحاسيس التي تتحول الى شلال متدفق، ففي الوقت  الذي يعاني بعضهم من الإعياء بعد مقطع واحد أو مقطعين فيضطر للتكرار واعادة الفكرة الواحدة بطرق مختلفة، نجد الشاعرة تمتلك طاقة التدفق التلقائي والقدرة العالية على توليد الصور الآسرة والرؤى المتنوعة.

تقول في قصيدة (من مأمن يؤتى الغريب)

(وهناك في أقصى الحنين وجدتني

ووجدت نورسة تجوب منازل الرؤيا

لتلمس ما تخفى من حكايات الجفاف

كم أرهقتني باحتمالات الغياب

وأربكتني بالتفافة طرفها المسكون أوجاعا

وصبت في فؤادي جهد رحلتها

وغابت دون أن تلقى مكان

وأنا أناي قبائل لما تغادر أرضها الأولى

ولما يأتها وجه الخلاص …. ))   ص9

تتكرر مفردة النورسة في أكثر من نص وهي ترمز للفكرة الضاغطة، التي تشغلها وتسيطر على رؤياهاهذه الفكرة تختزل تجربتها القاسية بين ماضيها الجميل وحاضرها المشحون بالجفاف. نلاحظ التدفق وجريان اللغة وانسيال الصور التي لا تكاد أن تتوقف.

     أما العنصر الآخر الذي أسهم في رفع شعرية قصائدها، فهو الطاقة السحرية لحركة لغتها وانفساح إمكاناتها التعبيرية عبر التشخيص والتجسيم والتمثيل ومديات التحويل الدلالي من خلال صور التشبيه والاستعارة المثيرة والكناية المعبرة والتي تتميز تلك الصور بالغرائبية وكسر التوقع، مستثمرة الإيقاع التفعيلي المناسب القادر على إطلاق الرؤية إلى المكان الأبعد في ضمير الإنسان .

تقول متحدثة عن تجلدها وصبرها:

(( هذا التجلد جرة الفخار

وانكسرت بعيد رحيلها ))  ص38

التجلد جاء من عالم المعنويات وجرت الفخار جاءت من عالم المادة تتشبه فيه الكثير من الغرابة، فضلا عن كونه مناسبا جدا لهزالة جرة الفخار وقلة  تماسكها.

  وكثيرا ما تميل لغتها إلى التشخيص والتجسيم:

  (وفي ارض غريبة ، لا يباع الحلم بالمجان

      لكن بانكسار الروح في جيب الغريب)   ص12      

    هكذا يتحول الحلم إلى مادة يعرض للبيع، وتتحول الروح عبر الغربة إلى مادة زجـاجية قابلة للانكـسار، ومـثل ذلـك قـولها (أطـراف الأمان) (أقصـى الحنين)(عطشي الذي ربّيته) (جرار الروح) (مالأسئلتي ضفاف) وتميل إلى التشخيص وتبعث الحياة فيما لا يعقل: (فالشتاءات تبتعد) (والنبؤات تسرج فرس اليقين) و (الطرق البعيدة تغتابها)، (وليلها لا ينام) وكثيراً ما تأتي بالصفات من عالم مختلف (ألوان عجاف).

وأحيانا تستخدم المفردات ذات الطابع التراثي غير المألوف عبر سياق جميل:

(وتمتمة المساء الشيخ تطلبهم

حنينا لاتصال كلاله بكلالهم) ص(37)

فقد استخدمت المفردة القرآنية المتعلقة بالمواريث، الكلال من الكلالة، وهي تعني الوريث الذي ليس له أب أو ولد إشارة إلى العلاقة الوثيقة التي تربطها بهم والشيخ نبات صحراوي معروف.

ومن ذلك قولها:

(( ذهب الذين أحبهم

وذهبت في غيبوبة الذكرى ولون الأمس

 مسكوبا بلا وعي على ما

شف من وجعي الحرون)                             (41)             

ذهب الذين أحبهم، استدعاء لبيت الشاعر عمرو بن معد كرب الذي يقول في

(ذهب الذين أحبهم ، وبقيت مثل السيف فردا)

الذي تشير من خلاله إلى إحساسها القوي بوحدتها ، نلاحظ أنها استخدمت مفردة (الحرون) ذات البعد التراثي الذي قلما تستخدم، وتعني: عدم الانقياد وعدم الاستجابة للتراجع .. أي أن وجعها أو حزنها مقيم لا يبعد .

تقول في أسلوب شفيف عن أقارب سمعت نبأ رحيلهم :

(أضاءوني وأي أسى أضاءوا

ليوم فيه يستلب الضياء)ص ( 51 )

متفاعلة مع بيت الشاعر العرجي في عصر بني أمية الذي يقول :

(أضاعوني وأي فتى أضاعوا

   ليوم كريهة وسداد ثغر … )

غير أن الشاعرة قلبت مفردة الضياع إلى الضياء وعكست الدلالة فحيث كان الشاعر العرجي يؤكد على أن الآخرين أضاعوه وأنهم سبب معانات نجد الشاعرة تعكس المعنى لتؤكد أن الآخرين هم مصدر ضياؤها وسعادتها وهي تكثر من أسلوب التقابل والتضاد، محملة بعض نصوصها رؤى تأملية عميقة:

(في البعد تصغر سوءة الغياب

 تكبر موجبات الصفح …))   ص ( 35 )

(كم سيضاء من فرط المحبة شاحب الذكرى

  ويهذر صوت نايات التغرب

 نحن أقرب … نحن أجمل في الغياب) ص( 36 )

هكذا تتضاءل في البعد أخطاء الآخرين، وتكبر مزاياهم … نلاحظ جمالية التقابل المذهل بين الضياء والشحوب، فمن فرط البعد والمحبة لن يبقى للآخر البعيد أية أخطاء ، لأن البعد والغياب أسقطا كل ذنوبهم في منطقة النسيان .

في قصيدة (غيمة الأسئلة) تتدفق صورها المذهلة ولغتها الريانة القائمة على بينة التضاد بين مرحلة طفولتها وما كان يقال لها وتأمل … وبين مرحلة أخرى وقد شبت وكبرت تقول بأسلوبها الساحر المتدفق :

(( قيل اكبري حتى يجيء الغيم

 من صدر السماء إلى مدارك

ثم اكبري كي تلمسي أستار ليل

كم غفوت تفكرين بلونه

وبصوت عابره الشجي وقد

تهدج بانتظارك …. ))     ص ( 61 )

هي أحلام الطفولة والصبا، إنها حين تكبر سيجيئها الغيم من صدر السماء كناية عن تحقق الآمال والأحلام التي تنتظرها، غير أنها حين شبت وكبرت فوجئت بما لم تتوقع

(قيل اكبري … كبرت فغاب بريقها

 غيم التساؤل في مدى العينين غاب

وغابت الدهشات في ظل التلفت

في بهاء الكون بحثاً عن جمال)     ص   ( 62 )

فبعكس ما كان يمنيها الاهل والمقربون ها هي تخسر الكثير غاب بريقها، وتراجعت اسئلتها الخفيفة، وتوارت دهشتها وفرحتها أمام كبر وعيها واتساع ثقافتها وانشغالها بالأسئلة الكبرى… غير أنها أصبحت الأكثر قدرة عبر إطلاق تجربتها وثراء لغتها وتدفق صورها ووضع المتلقي في دائرة الدهشة والانتظار …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى