الرقم أربعة (مذكرات)

رضى كنزاوي | المغرب

الثانية عشر زوالا ،كأنه أربعاء، لا أذكر تماما  ، غالبا ما أنسب أسوأ ذاكرة إلى الأربعاء ، رغم عنوت الإدراك واستقراره على يوم آخر،  كيفوالأربعاء يوم وفات أبي (وضعته أمي بمساعدة عمي إتجاه القبلة، كما تقتضي السنة، كان يتلو حينها آخر سكراته ، عندما لذت بالفرار، لا خوفامن تجسد الموت في أبي وإنما من الوداع، ومذلك الحين وأنا أنسب كل كوارث العالم إلى ذلك اليوم المشؤوم؛ الرب لم يأخذ أبي أخذه الأربعاء، برجيي التجارة العالميين لم تفجره القاعدة ولا المؤامرة بل الأربعاء، قنبلة الفتى السمين لم تسقط فوق “ناجاساكي”بل الأربعاء، “روبيرطو باجيو” لميخفق ركلة الجزاء في نهائي كأس العالم 94 بل الأربعاء، البيان الشيوعي لم يكتبه ماركس ولا آنجلز بل الأربعاء…

في جيبي أربعة دراهم ، من المفترض أن أستقل بهاء حافلة تغنيني عناء المسافة الشاسعة بين بيتنا والثانوية التقنية، التي تبعد عن دارنا بما يناهزالأربع كلمترات شمال مدينة المحمدية، تفتح أمي “بزطامها” المهترئ وتسل منه أربعة دراهم كل صباح، ضمور تلك القطعة الجلدية السوداء بينأناملها المصبوغة بحناء تلاشت نصحة لونها، تجزم أن الأربعة دراهم كل ماكان هناك، تهبني الأربعة دراهم، وتعود إلى فراشها بعد أن تعد لي براد شاي وقطعة خبز مع الزيت.

لكنني أحتفظ بالأربعة دراهم – رغم الظرف المناخي الصعب، سماء رمادية بنفسية فتاة في فترة الحيض، قد تنفجر سحبها القطنية عن نوبة مطر  فيأي لحظة – لشراء بيضتين ودرهمي أرز أصفر أحتفظ بتلك الأربعة دراهم ساخنة في جيبي ما استطعت، وجبة ما بعد رياضة كمال الأجسام  في النادي البلدي 6 نونبر، خمسون درهما للشهر،  كانت هذه الطريفة، لكنها استثنت أبناء شغيلة المجلس البلدي، الذين فتح لهم النادي بالمجان، غيرأني نادرا ما كنت أؤدي الواجب، غياب الراقابة الصارمة، والتسير العشوائي خدم مصالح أمثالي، كذلك تعاطف المدرب مع وضعي الاجتماعيالمزري، طفل يتيم ينتمي لعالم من القيئ حيث الجريمة هناك….حيث القتل والسرقة والدعارة من البديهة، يحاول النفاذ بحياته بأربعة دراهم.

 أتذكر… أتذكر أول يوم في الانخراط بالنادي، بعت سروالي في سوق (الحمرة )وهو سوق لبيع وشراء الأشياء المستعملة والملابس القديمة، وقدسميت بالحمرة أي الحمراء اللون تيمنا بالعشرة دراهم ، وهذا كاف ليعطيك فكرة عن القيمة المادية للأشياء التي كانت تباع وتشترى هناك ، لم تكنالمرة الأولى، سبق وبعت سروالا آخر بستة دراهم، ثمن تذكرة حافلة يقتنيها أخي للذهاب إلى كلية الطب، صار الأمر سرا بيني وأمي صيانة لكرامته، لطالمى كان أخي متفوقا في الدراسة، وظننت حينها ومازلت أنه يستحق تلك التضحية وبصفتي إنسانا أنانيا، تلك كانت أول وآخر تضحيةقمت وسأقوم بها في حياتي. الإنسان دائما ما يبدع في ابتكار أسباب لتعزية نفسه ،أسباب ساذجة وهمية لا أساس لها من المنطق،  لا يهم مادامهناك مخذر فكري من صنع العقل البشري لتخفيف وطأة الواقع، قلت: لا بأس  أمثلك ساقين فقط سروال واحد يكفي لأمضي به بقية الشتاء.

تناولت المحفظة بكلى الكتفين وراء ظهري (لا تجعل شيء خلف ظهرك أبدا عدا حقيبتك وماضيك) تمنطقتها ليسهل علي التنقل ،فأمامي مسافة طويلةلجبدها ، كذلك درءً لأن يُبلل شعري  عند احتمال سقوط المطر، وأقع سقيما طريح الفراش ، كانت حيلة ناجعة في مثل هذا الظرف،  أن أغرس رأسيتحت المحفظة كالسلحفاة ، سلحفاة في سباق مع قدر يرتدي حذاء رياضي من علامة nike .

صعدت عبر الطريق الرئيسي (شارع المقاومة) المفضي إلى التجمع السكني أو الشق العلوي لمدينة المحمدية، فالمدينة تنقسم إلى شطرين (شرق/ غرب) يقطعهما الطريق الساحلي ، الشطر السفلي الذي انفرد بالبحر  قطنه المنعميين، أما الشطر الآخر فقدكان امتدادا فسيحا للهامش، مشيت مرورا عبر ڤلل وقصور (لكولين) مشيت بمحاذاة جدرانها الشامخة، احتماء من نوبة سماء مفاجئة، مر بي زميلبالقسم على دراجة نارية سبور حديثة الطراز، صرخت مناديا إياه، عسى صوتي يطفو فقو صخب ماكينة محركه،  لكن دون جدوى، فجأة، إقفهرالشارع بشكل مريب، بعد انقشاع دخان الدراجة، وكأنها لمسة سحرية أو ستار مسرحي انسدل ليبدل المشهد، فأصبح وحدي لحظتها على سطحالجود، وكأن المكان انفرد بي لأراه عاريا من الرداء البشري ، وكأن لا مكان فوق المكان، مشهد تعوزه الحياة لا بمفهوم الحركية فقط، وإنما الروحكأنها تلاشت كذلك ،روح الأشياء، فصار العالم جثة هامدة فوق حذاء شاب جائع: لا سحب تدب رفقة الرمادي المائع في صفحة السماء، لا طائريخفق هناك، لا جذع ترتعش أوراقه، لا نافذة تطرقها ريح، لا ظل يستميله ضوء، وكأن الحياة صورة فوتغرافية لخلفية شاشة حاسوب، لبستنيضوضاء الصمت، وكلما فعلت أسقط في عمقي، أرتطم بماهيتي، أصبح أنا الآخر في العشب والسكين والهواء والأبجدية والحدس، ثم أخيرا شيء ما يدلي من بعيد بوجوده!، امرأة بيضاء كالشبح، أكاد أرى وجهها لكنني لا أستطيع أن أحدد ملامحها، ككتابة في حلم قديم،  تظهر، تختفي،  ثمتبين مجددا بين النخيل المتراص على ناصية الشارع إلى الأبد ، هي القادمة إلى هنا، وأنا الذاهب إلى هناك ،وما كان للمسافة بيننا إلا أن تلتقي ،في النقطة التي ستمد يدها، مشيرة لي بقصاصة بيضاء،  تضغطها بخشونة لا مراعية لتشوه الورق، لأناقته، لقداسته، وكانت الطبيعة تبكي فيالقصاصة من المطر إلى العصفور.

يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى