هل التسامح النبوي رد مناسب على الإساءات؟

خالد جمعة | فلسطين

 

في اعتقادي، أن أي مسألة تتعلق بالدين أو الأيديولوجيا، أي دين وأي أيديولوجيا ليس على التعيين، لا تحمل في ذاتها عنفاً أو تسامحاً بقدر ما يكون هذا العنف والتسامح مرتبطاً بطبيعة العقل الذي يحمل الفكرة، فحتى الشيوعية كانت ديكتاتورية تجاه العمال الذين تنادي بتحريرهم من الرأسمالية، حين حمل أفكارها أناس بعقول محدودة وغير قابلة للتطور، ويسري ذلك على كل النظريات والأديان، لذلك نجد في تاريخ الديانات أشخاصاً متسامحين، وأشخاصاً قتلة، وربما اعتمد الاثنان على النص ذاته لتبرير سلوكهما. الحمية باتجاه المعتقدات هي شيء مطلوب وضروري، والتحرك للدفاع عن رموزنا الدينية والوطنية هو أمر ضروري ومطلوب كذلك، ولكن، ما هو الرد المطلوب حقيقة بعيداً عن فورة الدم اللحظية؟ مبدئياً، فإن الدفاع عن المعتقد يجب أن يكون سلوكاً يومياً، عبر التحلي بصفات هذا الدين الذي نتبناه أو ندعو إليه، لا أن يكون الأمر مرتبطاً برد فعل لحظي على سباب هنا وشتيمة هناك، فلقد غضب الكثيرون قبل ثماني سنوات حين أنتج فيلم يتناول علاقة نبي الإسلام بالنساء، ولكن النتيجة النهائية لفورة الغضب تلك كانت لا شيء، لأنها لم تتعد كونها فورة غضب، هدأت بعد أن هدأ أصحابها. ألا يمكن مثلا الحديث عن النبي الكريم وسلوكه اليومي مع المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى وحتى مع الكفار، ومع الحيوانات والشجر، مع نسائه ومع الأطفال ومع الفقراء؟ فإن كان المسلمون يعرفون جيداً سلوك نبيهم بتفاصيل التفاصيل، فإن الآخرين لا يعرفون ذلك، لأنهم لا يهتمون بتلك المعرفة، فلا يلجأون للبحث، إنما يتلقون المعرفة عبر آخرين يقولون لهم إن نبي العرب كذا وكذا، فيحملون الصورة في رؤوسهم، لدرجة أن كثيرين منهم يسألون إذا ما تم ذكر مريم في القرآن الكريم، إنهم لا يعرفون أن هناك سورة كاملة باسم السيدة مريم العذراء في القرآن، فهل نتهمهم بالجهل، أم نوصل إليهم المعلومة؟ لنأت على سيرة النبي، ونتكلم عن بضع مقتطفات منها، كرد أولي على من يتهكمون عليه ويسيئون إليه، ولنبدأ من فتح مكة والجملة الشهيرة التي قالها بعد أن تمكن من رقاب أعدائه الكفار، “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، حيث كان في مقدوره أن ينتقم ممن أهانوه وطردوه من بيته ومدينته وقتلوا أصحابه وشردوهم، ولحقوا به حتى يثرب، وحاربوه في عدة معارك، وقد كانت فرصةً للانتقام لو أراد ذلك، ولن يحاسبه أحد لأنها كانت حالة حرب، ومع ذلك قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وعن جابر أنه قال: “كنا مع رسول الله بذات الرقاع، ونزل النبي تحت شجرة فعلَّق بها سيفه، فجاء رجل من المشركين، وسيف الرسول معلَّق بالشجرة فأخذه، فقال الأعرابي: تخافني؟ فقال الرسول: لا، فقال الأعرابي: فمَن يمنعك مني؟ فقال رسول الله: الله، فسقط السيف من يد الأعرابي، فأخذ رسول الله السيف، وقال للأعرابي: مَن يمنعك مني؟ فقال الأعرابي: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أُعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى رسول الله سبيله، فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس”. وكان يجاور رسول الله جار يهودي، وكان اليهودي يحاول أن يؤذي الرسول، ولكن لا يستطيع خوفًا من بطش أصحاب النبي، فما كان أمامه إلا الليل والناس جميعاً نيام؛ حيث كان يأخذ الشوك والقاذورات ويرمي بها عند بيت النبي، ولما يستيقظ رسولنا الكريم فيجد هذه القاذورات كان يضحك، ويعرف أن الفاعل جاره اليهودي، وكان يزيح القاذورات عن منزله ويعامله برحمة ورفق، ولا يقابل إساءته بالإساءة، ولم يتوقَّف اليهودي عن عادته حتى جاءته حمى خبيثة، فظلَّ ملازمًا الفراش يعتصر ألمًا من الحمى، وبينما كان اليهودي بداره سمع صوت الرسول يضرب الباب يستأذن في الدخول، فأذِن له اليهودي فدخل وتمنّى له الشفاء، فسأل اليهودي الرسول: وما أدراك يا محمد أني مريض؟ فضحك الرسول وقال له: عادتك التي انقطعت، فبكى اليهودي بكاءً حارًا من طيب أخلاق الرسول وتسامحه، فنطق الشهادتين ودخل في دين الإسلام. أما الكافرون الذين كانوا يقيمون بين المسلمين فقد تعامل معهم النبي، وأمر المسلمين أن لا يعتدوا عليهم ولا يقاتلوهم، وكان يعدل معهم، ويزور مريضهم، ويحسن إلى جاره منهم. يقول أنس خادم النبي: “خدمتُ رسول الله عشر سنين، والله ما سبَّني سبة قط، ولا قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته”. وعن عائشة قالت: “ما ضرب رسول الله شيئًا قطُّ بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلَّا أن يجاهد في سبيل الله. وما نِيل منه شيء قطُّ، فينتقم مِن صاحبه، إلا أن يُنْتَهك شيء مِن محارم الله”. وعن عبد الله بن عمر: “جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة. وحتى في حقوق الحيوان التي اكتشفها العالم حديثاً، فإن حكايته مع القط الذي نام على عباءته مشهورة، ولمن لا يعرفها، فإن النبي حين حاول أن يقوم والقط نائم على طرف العباءة، لم يوقظه، بل قص طرف العباءة وترك القط نائماً وانصرف بعباءته. وأظن أن جميعنا يعرف الحديث الذي يقول: دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض. بالطبع يمكن الحديث عن عشرات القصص الخاصة بالتسامح تخص النبي الكريم، إنما حاولت أن أقدم نموذجاً للرد على الإساءات التي توجه إليه، وهذا لا يعني أن تكون هذه طريقة الرد الوحيدة، لكنها إحدى الطرق التي لم يتم استخدامها على نطاق واسع، فليس لديكم فكرة كيف ينظر الغرب إلى النبي، دعوكم من المفكرين الكبار الذين عرفوا قيمته من خلال ما قرأوه عبر تاريخ الكتابة عن الإسلام، إنما أتحدث عن الشعوب العادية البسيطة التي تستمع إلى آراء أصحاب دياناتها الذين فيهم مغرضون كما في كل الديانات الأخرى، وفيهم من يشوهون الحقائق عن عمد وفيهم من يشوهونها نتيجة جهلهم بأصول الحكايات ذاتها. الضعف الذي يعيشه العالم الإسلامي، هو السبب في الجرأة عليه، ليس فقط على الإسلام كديانة، بل على الشعوب العربية والإسلامية كلها، بلا استثناء، لأن هذا ما يولده الضعف وعدم القدرة على إنتاج ما يطور الرؤية وأساليب الحياة، فقد كانت الدولة العباسية في أوج قوتها عندما سمحت لأصحاب الفكر المختلف أن يقولوا ما يشاؤون، والسبب، كون الدولة قوية فهي لا تخشى على منظومتها النظرية ولا العملية من أي شيء، فالقوة لم تكن فقط عسكرية، بل كانت على كل المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لذا كانت العزة في تلك القوة، ولم تكن آيات القرآن وقتها أكثر من آياته اليوم، ولم تختلف الأحاديث النبوية وقتها عن الأحاديث اليوم، كل ما في الأمر أن عقولاً استطاعت استخدام تلك الآيات وتلك الأحاديث لتطوير الأمة وإيصالها إلى مصاف الإمبراطوريات العظمى، بينما عقول من زمن مختلف أخذت نفس الآيات ونفس الأحاديث وهبطت بالأمة إلى القاع. دافعوا عن النبي بشراسة، ولكن لا تجعلوا هذا الدفاع كمظاهرة تنتهي بانتهاء الغضب الذي تشعرون به، اجعلوه يومياً، بسلوككم، بتسامحكم مع أنفسكم أولا ثم مع الآخرين، وقتها، لن يستطيع لا رئيس دولة، ولا رسام كاريكاتير، ولا حتى صانع صورايخ أن يتجرأ عليكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى