أهل السياسة وأهل الشتائم

توفيق شومان | مفكّر وخبير سياسي لبناني

من الجلسات الشهيرة لاستجواب الحكومة اللبنانية قبل الحرب الملعونة في عام1975، واحدة كان فيها رشيد كرامي رئيسا للحكومة، و كان صائب سلام في مقاعد المعارضة.

عن طريق السهو، خرج رشيد كرامي عن قواعد اللغة، فكسر ” المفعول به “، فتصدى له صائب سلام طالبا ” الكلام بالنظام ” وقال:

ـ لقد كسرت حيث يجب النصب

ـ أجابه كرامي: لقد تركت لك الكسر والنصب واحتفظت بالضم والرفع .

هذا نموذج من رجال لبنان الذين مضوا، ينتقدون بعلو ثقافي ومعرفي، ويمزجون الطرفة بلذعة السياسة، وكانوا يقروؤن ويفكرون، ويسعون إلى بناء وطن، حاولوا بما كان لهم من قدرة واستطاعة، أخطأوا في أمكنة وأصابوا في أخرى ، لكنهم فكروا وحاولوا ، وفي حينهم كان لبنان نجمة الشرق .

حاولوا وفكروا

والأهم أنهم فكروا

والفكر يعيدنا إلى سقراط

إلى بلاد الإغريق .

كان سقراط يسأل كثيرا وكان يصمت أكثر

فلسفته قامت على الأسئلة

أسئلة سقراط ، كانت تأتي بعد صمت طويل، وربما صمت حزين، وفي يوم ما، رأته زوجته صامتا، فسألته ماذا تعمل؟ فأجابها إني أفكر.!!!

ـ وهل التفكيرعمل؟ سألت زوجة سقراط

ـ التفكير من عمل الرجال ، قال سقراط .

من بلاد الإغريق إلى لبنان

بل إلى رجال لبنان ، بل إلى رجال السياسة في لبنان .

منذ سنوات يرزح لبنان تحت عبء الدين العام وأثقاله

رجال السياسة كانوا يقولون لا يجوز ذلك

لا يجوز أن يتجاوز حجم الدين العام ثلاث مرات حجم الإقتصاد الوطني .

ماذا فعلوا ؟ لا شيء…

لماذا لم يفعلوا ؟… الإجابة في كتاب المجهول .

لو فكروا في احتواء الدين العام أو خفضه، لما وصلت المديونية إلى ما هي عليه الآن، وما كان لبنان وصل إلى خطوط الخطورة والفظاعة .

 ماذا يمكن أن تكون إجابة سقراط وهو الذي يمزج بين الفكر والرجال؟! .

حسنا … للتذكير مرة أخرى : كان سقراط يقول : التفكير من عمل الرجال.

ماذا فعل ويفعل رجال السياسة في لبنان .

إنهم يبررون

وما هو التبرير؟

التبرير دفاع عن الخطأ  أو عن الواقع السيء من خلال تفسيره بالزور والبهتان بهدف إعادة تركيبه وتكريسه بقناعات مزيفة ، فيما التفكير فعل عقلي يبحث عن حل لإشكاليات الواقع وأزماته ، والتبرير دعوة للإقامة في سيئات الواقع، دعوة تسكيت وتصميت وتزوير وتحوير وتدوير ، بينما التفكير يصوغ جسر أفعال ينقل الواقع مما هوعليه إلى ما يجب أن يكون عليه .

أليس هذا ما  فعله و يفعله رجال السياسة في لبنان ؟

يبررون ولا يفكرون

يبررون لأنهم لا يملكون الحلول المطلوبة ، ويبررون لأنهم يدافعون عن أخطائهم وسيئاتهم ، ويبررون لأنهم لا يريدون الإعتراف بمسؤولياتهم عن ايصال البلاد إلى حافة الإنهيار والإنفجار .

يبررون سوء أعمالهم ويبررون سوء فشلهم

وماذا أيضا ؟

هم يشتمون

الفكر يأبى الشتيمة والغريزة أمها وأبوها .

هنا قد يكون من المناسب العودة إلى مزج سقراط بين الفكر والرجال ، وقد يكون من المهم استحضار ما يقوله ديكارت : أنا أفكر إذا أنا موجود.

ديكارت ربط الفكر بالوجود ، وجود الذات ، وجود الفرد ، وجود الإنسان ، وحتى وجود الجماعة .

لو تم احصاء أفكار وشتائم رجال السياسة في لبنان ، كم فكرة سيكون في حيز الوجود؟ وكم شتيمة ؟

من معجزات الزمان العثور على فكرة

ومن رذالة الزمان ألا نعثر إلا على الشتائم .

يتشاتمون في المجالس ، وفي الإذاعات والشاشات وعلى المنابر، وقد بات الوصول إلى قمة الشتيمة مرتبطا بقيمة رجال السياسة .

لماذا حلت الشتيمة محل الفكرة ؟

ولماذا أزاح خطاب الشتيمة خطاب العقل ؟

لدى علم النفس الإجابة:

يقول عالم النفس السويدي الشهير نيلز إيك، إن الذين يشتمون يعانون من ” حبسة الكلام ” ، أي من قلة القدرة على التعبير ، ومن قلة الأفكار  ، ولذلك يلجأ ” الشتًام ” إلى ما لديه من القلة ، ويستعيض عن الفكرة بالشتيمة.

هنا صفوة الكلام

العودة إلى ما قبل الأفكار

يعني العودة الى اللغة البدائية

إلى كلام الشارع وكلام الرعاع

كلام الشارع وكلام الرعاع يسمعه الجالسون  في مجالس السياسة  ، ويسمعه  المستمعون من الإذاعات … ويسمعه المشاهدون من الشاشات … وممن ؟   من رجال السياسة والسياسيين الذين لا يملون ولا يتعبون من الحديث عن الصلاح والإصلاح .

كيف يكون الإصلاح بالشتيمة ؟

متى كانت الشتيمة دعوة إصلاحية ؟

جاء في ” لسان العرب ” لإبن منظور ، عن الشتم والشتيمة ، أن من يُكثر الشتائم يقال له شتًامة ، و شتًامة تعني سيء الخلق وقبيح الوجه .

وجاء في ” تاج العروس ” للزبيدي أن من مشتقات شتم: شتيم ، ويقال : فلان شتيم المحيا ، أي كريه الوجه وقبيحه.

مر في لبنان رجال كثر كان يقال لهم علاًمة : علاًمة في اللغة ، و علاًمة في القانون ، وعلاًمة في التاريخ ، وعلاًمة في الفلسفة ، وعلاًمة في السياسة ، وما إلى ذلك.

آنذاك كان زمن العلاًمة

الآن زمن الشتًامة والشتامين

والشتًامون لا ينتجون إلا شتائم ، والشتائم نفايات الكلام

ولذلك يعيش اللبنانيون فوق أكوام النفايات

نفايات السياسة … ونفايات الكلام … ونفايات الزبالة وزبالة النفايات.

عشتم وعاش لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى