علاقة عكسية.. قصة قصيرة

سمير الجندي | فلسطين

أقسم بقلب العذراء أنه حدث.. فكم تحتاج الذبيحة من وقت كي يكتمل افتراسها، وهل لها اسم؟ وما اسمها؟ ربما تصعد جماجمنا إلى الأعلى.. أن تتبع الظل يهرب منك، وأن تهرب منه يتبعك

بن جونسون شاعر من القرن السابع عشر ربط العلاقة بين النساء والظل كعلاقة عكسية. والعلاقة بين الإنبطاح المذل والنصر المبين علاقة عكسية، هذا ما يروق لي في المقارنة، ربما غير العادلة. أحيانا يلعب لي دماغي بأشياء رهيبة. كنت بالتاسعة عشر من عمري..كان الباب مغلقا بقفل صديء، كان ملاذي الأخير. وفي أعلى الباب نافذة زجاجية محطم جزء منها..ألقى الجندي قنبلة من الغاز عبر النافذة المحطم زجاجها ظنا منه أنني بداخل الغرفة، وألقى أخرى ثم اتبعها بثالثة ورابعة وخامسة.. فانتشر الدخان في جميع الغرفة حتى عجز الحيز عن الاستيعاب.. فبدأ الدخان ينتشر مع هواء الحي الضيق.. وأنا بدأت أستسلم للمعاناة ليس بيدي حيلة.

تحرك الجنود وغادروا المكان هربا من تأثير الدخان. وأنا كاتم لأنفاسي ما استطعت’ خمس دقائق كاملة طويلة؛ ولكنني وصلت سليما معافى إلى أول الطريق الخالي من الناس.

كانت هناك ساحة صغيرة وقارورة غاز وحشية، وفي المقابل مدخل بيتي، ولكن كيف لي أن أصل إلى الباب؟ سقطت على ظهري دون أن أشعر بأي ألم.

فتحت عيني وأخذت أحدق بالسقف، ثم اكتشفت أنني فوق سريري الأبيض، حركت ساقي وذراعيي لأتعرف على حالتي، وأعدت توازني شيئا فشيئا… أجلت تذكري لما حدث، وأرخيت أذني كي اسمع ما يدور خلف نافذتي، واستأنست بأصوات الجيران تتبادل الكلام لما حصل.

أصابتني رعشة في صدري، فهل أصبح صخرة صماء دون أن أشق حقول القمح الذهبية؟ فهل أحدثهم عما حصل؟ أم أترك لهم التأويل فيما حصل؟ لا.

لن أقل لهم ما حدث. فهذه الرواية لي أنا وحدي؛ فلا داعي لأقول لهم شيئا، وهذا أفضل. ففي السكوت خير وأي خير.

في هذا اليوم من كانون الأول يا عزيزي، استوطن النسر قلبي. حتى اختلط الأمر علي فلم أعرف أيهما كان قلبي. إلا إنني أعرف صدى أنفاسي التي سلبت القنابل الخمس نصفها. والبقية تطير في أزقة الحي.

تراشقت النظرات أنا وأهل الحي من النساء والرجال والأطفال نحاكي معا قصة الفردوس وفي العيون ثلج أسود يحتضن بقية العالم.

خلتها تحرق روحي وجسدي حرقا، شددت على اسناني وتخليت عن عضلاتي كمن يحاول ثني قضيبا من الحديد.

كانت النيران في قلبي ليست كبقية النيران. يتيبس عليها جسدي. كان ذلك المساء كيوم الحساب عند الحائرين. وبعد ذلك أخذت أصابعي تتصبب عرقا. ثم تتيبس من برودة اللحظة. فلا شرارة أدفيء بها أصابعي كتلك الشرارة التي صنعت بقلبي شجاعة الأنبياء.

غادرتهم خلسة نحو غرفتي البيضاء التي تصبح كقالب ثلج في الشتاء. وتملكني القلق. لم أستطع النوم تلك الليلة اقلب ما حدث، ولا أسمع شيئا بعد منتصف الليل.

لعلي الوحيد المستيقظ في حارتنا لا يتناهى إلى مسامعي سو هدير الثلاجة القابعة في زاوية المطبخ. وشخير خفيف من الغرفة الجانبية، في مثل هذا الوقت من الليل تأتي العواصف مع بساطير الجنود بعد أن يستسلم الجميع للنوم.

لا يزال الجميع نائما. بعد أن استكمل المؤذن الدعوة إلى صلاة الفجر. انتعلت حذائي الرياضي. وتوجهت إلى الأقصى. كان الفجر مؤنسا. والصلاة في مثل هذا الوقت تبث الحياة في الجسد والروح بدءا من الرأس مرورا بالذراعين والساقين، تسلل النهار شيئا فشيئا ودبت الحركة فوق الطرقات فزحف القلق كأفعى برازيلية ليختفي خلف الحي، نظرت في مرآتي فأسعدتني أن الدم يجري في عروقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى