لا أحب الكتابة عن القدس .. ولكن

أمير مخول | فلسطين

حين طلب مني الزملاء في فسحة – ثقافية فلسطينية أن أكتب في موضوع القدس، استعجلت ووعدتهم أن أسعى، لكن بعد إنهاء المراسلة، شعرت بأنني لا أطيق الكتابة عن القدس، بخلاف شغفي بهذه المدينة وحبي لأهلها اللاجئين والنازحين والباقين.

بما أننا نعيش في زمن السلام الاقتصادي وتسارع التطبيع السلطوي العربي، فقد بتنا نتمنى أن تقوم غالبية الأنظمة العربية بالتطبيع مع فلسطين بقدر ما تطبع مع الصهيونية وإسرائيل، وأن تكف عن ملاحقة وترهيب القوى الشعبية الناشطة في مناصِرة فلسطين وقدسها،  والمناهضة لمسلسل المهانة، أو أن تقوم هذه الأنظمة بالتطبيع مع شعوبها على الأقل بقدر ما تتدافع للتطبيع مع دولة الاحتلال، فقد حضرتني قصيدة مظفر النواب أو صرخته أمام الهزيمة وتهاوي النظام الرسمي العربي وتحوله الى نهج فيض الكلام والتغني و”التنافخ شرفاً” بكرامة الامّة عوضا عن شحّ الفعل وفي مسعى للتستّر على التواطؤ، لتنطلق كلمات الشاعر وبصوته الهازيء والغاضب والحزين:

القدس عروس عروبتكم

فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟

 ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها

وسحبتم كل خناجركم

وتنافختم شرفا

وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض

فما أشرفكم

أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة ؟

زمن الكتابة حاسم أحيانا، فهو يحوي جزءا من سياق المكان والحال. سأعود إلى أوائل العام 2010 وقد كنت في اتحاد الجمعيات العربية حينما قررنا مع مؤسسة التعاون ومؤسسة الدراسات الفلسطينية وجامعة بير زيت تنظيم أنشطة في إطار “القدس عاصمة الثقافة العربية والذي انبثق عن السلطة الفلسطينية وبقرار من جامعة الدول العربية.

اجتهدنا لإضفاء قيمة إضافية على موضوع تتكرر مناقشته ويتداول ذكره كل يوم لدرجة استنفاد المعنى أو للتعويض عن معنى مفقود بعد أن داسه احتلالان، فوجدنا في السياق جواب، بحيث استقرّ الرأي على تنظيم ثلاث فعاليات حول القدس بالتزامن وذلك كي تجمع الشعب الفلسطيني والبعد العربي.

واخترنا الأمكنة لتنطلق من جامعة بير زيت في رام الله ومركز محمود درويش في الناصرة وبيروت. وجرى لاحقا تتويج مجمل الفعاليات السنوية بحفل تكريم الناشطين والناشطات والناشطين الذي أبدعوا في الإلهام في فعالية القدس عاصمة الثقافة العربية.

تقرر إجراء الاحتفال في فندق الامباسادور الفخم في القدس. حضرتُ من حيفا في ليلة ماطرة وعاصفة. وبطبيعة أن القادمين من بعيد يحضرون قبل أهل المكان، خاصة إذا تيسرت حركة السير في “معابر إسرائيل” وهو الطريق الاستراتيجي الذي يحاصر المدى أمام شعب ويفتحه أمام شعب آخر، ويستحق وقفات، لكن ليس في هذا النص.

وصلت قبل الموعد في ذاك المساء وشاهدت على الباب الزجاجي لقاعة الاحتفال بيانا يتضمن أمرا إداريا من شرطة إسرائيل يحظر النشاط، ويحيل ذلك إلى اتفاقية باريس الفلسطينية الإسرائيلية من عام 1994 والمكملة لمعاهدة أوسلو، والتي تحظر على السلطة الوطنية الفلسطينية إجراء أي نشاط داخل إسرائيل، وبما أن لجنة القدس عاصمة الثقافة العربية منبثقة عن السلطة الفلسطينية، وبما أن القدس تخضع لقانون الضم الاحتلالي فهذا يكفي لتبرير قرار الحظر.

لم أتفاجأ من المنشور، بل حتى لم أتفاجأ لكونه موقّعا من ضابط شرطة، منحته دولة الاحتلال، إمعانا في اللا-نِدّيّة صلاحيات تشمل حظر نشاط للسلطة الفلسطينية. فقد أعددت نفسي لمواجهة لا بد أن تجري لفرض النشاط على شرطة الاحتلال وكسر أوامرهم، فالقدس برمزيتها تستحق المواجهة لتكريمها.

حضر المنظمون بمن فيهم موظف كبير في ديوان الرئاسة ولفيف من المسؤولين، واستبشرت خيرا بأن المواجهة قاب قوسين أو أدنى.

التفت رئيس الوفد ومرافقيه إلى المنشور الملصق على باب قاعة الاحتفال، قرأوه، وإذ بهم يديرون ظهورهم للانتقال إلى الفندق الوطني في المدينة المحتلة. 

وبلحظة تحولت المواجهة إلى الحلبة الفلسطينية والسعي لإقناع السادة بأن يتريثوا حتى نواجه أوامر الاحتلال بالرفض، وبإمكاننا فرض التراجع عليهم. وإن لم يحصل ذلك على الأقل نخوض معركة حول القدس، وفي المعركة حتى ولو خسرناها تكريم لعاصمة الثقافة العربية، والمعركة أحيانا تكون ثقافة.

اتصلت على الفور إلى النائب السابق طلب الصانع نظراً لكونه قد اًصر قبل يوم على  إجراء نشاط شعبي احتفالي لحزبه في باقة الغربية وبالتعاون مع السلطة الفلسطينية ونجح في كسر أوامر الشرطة ووزير الأمن الداخلي التي حظرت النشاط. بدأ الأخير في الاتصالات واستغلال حصانته البرلمانية، واضطررت خلال دقائق لإعادة الاتصال به وطلب عدم مواصلة جهوده. 

لقد استعجل المنظمون ومسؤول رئاسة السلطة بالخروج من الفندق ودعوة الجميع إلى الموقع البديل، وطلبوا أن ننطلق على وجه السرعة لأهم طلبوا للتوّ من الفندق البديل إعداد وجبة عشاء، وفي الحقيقة كنت بحاجة إلى وجبة عشاء فقد كنت أشعر بالجوع. 

بلحظة أبلغت المسؤول الكبير بأنني لن أرافقهم بل إن وجهتي هي العودة الى حيفا وذلك احتجاجا.

في طريق عودتي شعرت بالتعب الجسدي الناتج عن الساعة المتأخرة والسياقة في الجو الماطر والعاصف والجوع، وشعرت أيضا بالراحة النفسية من قراري.

استحوذ على تفكيري طوال ساعتين ونيّف موضوع أمر الحظر. والسهولة غير المعقولة في إصداره، لكن استحوذت على ذهني أكثر السهولة غير المعقولة أكثر في الانصياع إليه. 

كيف يحصل نمط سلوكي فلسطيني كهذا في حدث كان من شأنه ان يكون تتويجا لفعاليات القدس عاصمة الثقافة العربية، فالثقافة في سياق القدس من المتوقع أن تشمل روح الشعب الثائرة لا روح اتفاقية باريس المذكورة والتي لا علاقة للشعب بها، وأن تحتكم للحق الفلسطيني لا لأمر إداري من ضابط احتلالي شرطوي صغير. تذكرت القائد فيصل الحسيني وكيف شكّل ندّاً للاحتلال، وواجهه وقاد إحدى أهم ملاحم المقاومة الشعبية السلمية والتي أحرجت الاحتلال في كل مواجهة وجعلته يتراجع على الرغم من سطوة جبروته. 

فكرت لو كان للكلام وزن فإن كمّ الكلام الهائل حول القدس كان من شأنه ان يحررها…لكن الكلام الفارغ من روح الشعب لا وزن له مهما ازداد ترديده.

ثم اطمأننت حين استدركت أن أهل القدس واحيائها لا علاقة لهم بهذا المشهد فهو غريب عن روحهم، وليس مثل ثقافة الصمود في حالات التراجع وليس مثل المعركة مع الطغيان في حالات الأمل و”الغضب الساطع”.

وأهل القدس صامدون وصامدات، وليس مثل الناس حامية للحق وناطرة للأمل، وحين أذكر اهل القدس فهي ليست بسكانها فحسب بل بكل شعبنا الفلسطيني وشعبنا العربي وبكل أنصار ونصيرات الحق والعدالة في العالم. لتستحوذ “زهرة المدائن” الفيروزية الرحبانية على ما تبقّى من مسار عودتي: 

“عيوننا إليك ترحل كل يوم ترحل كل يوم 

تدور في أروقة المعابد 

تعانق الكنائس القديمة 

وتمسح الحزن عن المساجد”

///

“الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان

 يبكيان لأجل من تشردوا 

لأجل أطفال بلا منازل لأجل من دافع وأستشهد في المداخل 

و أستشهد السلام في وطن السلام 

وسقط العدل على المداخل”

///

سقط العدل… حاليا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى