على كف رتويت.. مقطع من رواية قيد النشر

د. زينب الخضيري | المملكة العربية السعودية

 

في المساء ينزل من شاهق العمر إلى مراهق مشاكس يذوب في فوضى الدهشة

وقف أمام الحضور تبدو على ملامحه الدهشة، بسعادة مرتبكة بدأ مقدم اللقاء “فهد” يقرأ من الحاسوب الذي أمامه، قبض بكل قوته على الميكرفون بطريقة لا شعورية، كأنه لأول مرة يقف أمام الجمهور، يحاول أن يفرغ حرجه بداخله.. تنحنح قليلاً.. ثم شرع في القراءة:

“جمهورنا المميز..

هذا المساء سنتحاور مع إنسان لم يسعَ إلى أن يكون كاتباً أو مفكراً أو صحافياً، ولم يرسم شخصيته بالقلم والمسطرة، كان يشبّه نفسه بصحراء الربع الخالي، ذهبية لامعة نقية تلتهمك في بعض الأحيان. قيل عنه الكثير إلا أنه احتفظ ببعض صفات وجينات أجداده القدامى، الذين كانوا من ملاك الأراضي.

كتب ذات مرة إلى صديق عمره “سامي” الأرستقراطي قائلاً: “كنت أكره أن تكون الكتابة فعلاً أمارسه بروتينية، الكتابة ابنة الإبداع والعبقرية، وهذا لا يأتي وأنا أجامل الآخرين، كرهت أن أعيش حياة عادية مثل موظف في دائرة حكومية منضبطاً، ملتزماً، وشريفاً، يقرأ الصحف كل صباح، هذا النوع من البشر يربكني، لكني أيضاً لم أحب حياة الظهور والمجاملات، وحفلات الزيف الاجتماعي، كلها تصيبني بالدوار، لقد جعلت مني الظروف كائناً صعباً، شرساً، غامضاً، ليس لدي صديق مؤتمن على أفكاري إلا أنك لم تكن من أولئك الأصدقاء المتزلفين، ولم تكن تهتم لطباعي، كنت لا أسمع منك إلا الله، من أين تأتي بهذه الكلمات والتحليلات الجليلة، لم تنبذني يوماً لأنني خالفتك، ولم تصفق لي عندما أجانب الصواب، كنت بوصلتي، وترمومتر حراري أضعه تحت لساني كلما ارتفعت حرارة مشاعري وأفكاري، يا لك من صديق مخلص”.

 أقدم لكم الكاتب والمفكر علي المأجور ليتحدث عن تجربته في الكتابة والتأليف.. من أين؟ وإلى أين؟

صفق الحضور ضجت القاعة عندما قام ذلك الرجل النحيل طويل القامة، له شعر أسود كث، يظهر من تحت غترته , ويرتدي نظارة مستطيلة الشكل والتي لا تناسب وجهه البيضاوي ، يرتدي ثوب لونه بيج بياقة مطرزة على الطراز الحجازي، اتجه ناحية المقدم فهد، سلّم عليه وشكره ثم طلب منه أن يجلس على كرسي قد أعد سلفاً له. 

 كان فهد سعيداً جداً به فلم يتوقع يوماً أن يلبي دعوته شخصية مثل علي المأجور، المختلف عن غيره في الفكر والعادات ونمط الحياة.

في البداية رحب المأجور بالجمهور، الذي جمع نخبة من نخب المجتمع في السياسة والاقتصاد والإعلام وأكاديميين متخصصين، والكثير من المهتمين ومن عشاق هذا المؤلف، الذي بدأ حديثه بجملة ساخرة: “نحن الدجالون والأوغاد، وأنتم الزبائن”.

  • فهد (ضاحكاً): يا لها من جملة مدهشة جاذبة، وافتتاحية لحوار سيكون مليئاً بالقنابل الموقوتة.. اسمح لي سيد علي بهذا السؤال الذي راودني أنا والكثير من محبيك وقرائك، فدائماً تتضمن كتاباتك وأفكارك خشونة وحدّة، وأحياناً تخرج عن الأسلوب الحاسم للكتابة إلى أخرى ذات روح رقيقة، ومسحة شعرية، في علاقتك بعالم الكتابة والكتب، هل هناك شاعر داخل (علي المأجور) تحاول قمعه؟

المأجور: هههه! يا له من سؤال عميق وماكر، أزاح علي نظارته التي لا يرى فيها إلا الأشياء 

البعيدة ولبس نظارته للقراءة فقد تعود أن يحمل نظارتين ربما تأكيداً على شكل المثقف وربما 

حاجة حقيقية .

    • أنا أكتب أحياناً أشياء غير حقيقية عن العالم وأصفه بما ليس فيه، أتلاعب بالكلمات، أسمّى الأشياء بمسميات أخرى، أكتب فيترتب الكون ثم أعيد للكرة الأرضية رونقها، في صغري كنت أتساءل وأتفجر بالأفكار: ما الذي يجعل الكون يتوقف حولي وأنا أهمّ بالكتابة؟ هذا سؤال جدير بالبحث، فعندما تتعملق أفكارك يضيق بها وطن روحك، فتبحث عن وطن آمن فضاؤه، متسق مع رؤيتك وأفكارك.
  • فهد:  طموحك الضاج والشبيه بعينين أضناهما السهر غالباً ما تكون وراءه رؤية تحثّه على التقدم.. أطلعنا عن مصدر إلهامك؟
  • المأجور (خلع نظارته ومسحها بطرف جاكيته ثم أعادها مرة أخرى وهو يهز رأسه ونظره مصوب ناحية أوراق أمامه): لم يكن مصدر إلهامي شخصاً أو كتاباً، بل كان عقليّ وتساؤلاتي المتلاحقة والمندفعة كالطوفان، كنت أتساءل: يا ترى بعد أي هزيمة في الحياة، ما هي الخطوة الأولى؟

بدأت أفتش في عبثية أشيائي، أجد قصاصات من شهاداتي، إنجازاتي، ولكن لا أجدني..!

ففي الأوقات الحرجة يصرخ الرجل الشجاع بداخلي وينهض، فهو لا يحب أن يهتدي بالآراء المتوارثة ونظم الفكر السائدة الجاهزة، المتدثرة بمعطف الحقيقة المطلقة.

  • فهد مقاطعاً: يبدو أنك تخاف من المواجهة..!
  • المأجور (قطب حاجبيه وانتفض كمن لدغته حيّة!): أنا شجاع لكني مهدد، قد تزّل قدمي عند حافة هاوية الأسئلة، لا أحب أن أترك نفسي في سبات مثل هؤلاء الأغبياء، أحب أن أعيش في خطر دائم، لم يكذب نيتشه عندما قال: “عش في خطر”، لأن السكينة تجعلني لا أفكر، وكلما تذكرت عمري الذي تسرب مني كالماء بين الأصابع تنتابني حالة من الغضب، لذلك عشقتُ فضيلة الحضور في الكتابة وأن أكون جاهزاً، هذا يترتب عليه أن تكون حاسماً، صارماً، لا تتماهى مع مشاعرك. 
  • فهد (في عجلة وعفوية بصوت يتسارع لا شعوريا)ً: في عالم الكاتب علي المترامي يصعب أن نقبض على مكان محدد، لكن سنبدأ من سؤال يراود القارئ، وهو كيف ولدت فكرة كتابك “الإنسانية الضائعة”؟
  • آه آه.. أنت تحدثني عن الإنسانية التي ضاعت بين لحى رجال الدين الدجالين، مما جعل البعض منا يعيش إزدواجية، والبعض الآخر يعيش غربة فكرية وهي أقسى أنواع الغربة، لذلك النزاعات “الدوغمائية” أخذتني مني، وانتقالي من عالم الطفولة الحالم إلى عالم آخر لا يتفق أبداً مع جذوري وأهلي وأجدادي، جعل مني شخصاً آخر.

 في طفولتي كنت مصاباً بضعف البصر، ولم أكتشف ذلك إلا في الثانية عشرة من عمري، إلا أنني كنت مثابراً في دراستي متقدماً على أقراني، على الرغم من عدم وجود من يوجهني، فاليتم المبكر غربة حقيقية، يغرقك في الوحدة المبكرة. 

أثناء نموي وتدحرجي في الحياة اكتشفت أن الأعداء أحياناً أفضل من مدعي الصداقة، فهم قد يقوّمونك ويحكمون عليك بطريقة أكثر عقلانية وموضوعية. أمضيت جُلّ وقتي أفكر كيف أقلب موازين الأشياء والأفكار التي ورثناها، أريد أن تفتح فمك من الدهشة كلما قرأت أفكاري ورؤيتي وتحليلاتي الصادمة. كنت أفكر بالقَدَرِ كثيراً، ما هو؟ ولماذا؟ وكيف؟ وعندما كبرت تيقنت أنه شيء مرتبط بتوقعاتنا؟

  • فهد: مذهل وخطير ما تتحدث عنه..! 
  • المأجور: الخطر هو أن نتوقف عن التفكير.

ضجت القاعة بالتصفيق مدة طويلة، بدا سامي متململاً قضى وقته وهو يكتب في هاتفه المحمول، فهو مدمن على وسائل التواصل الاجتماعي من فيسبوك إلى انستغرام، لكن عشقه لتويتر له قصص أخرى، إلا أنه سئم من لقاء المأجور ويريد أن يكمل حديثه بسرعة ليخرج.

في كل مرة يشاهد سامي صديقه المأجور في محفل ثقافي يبدأ بعقد المقارنات بينهما.. صوت علي يرن في أذنه إلا أنه غاب للحظات متشبثاً بومضةٍ من تفاصيل زمنية مرت به، تلبسه حالة سرقة لوعيه متحرراً من كل مخاوفه، هذه الدرجة من الحرية جعلته شجاعاً لمواجهة مشاعره التي كسرت أشرعتها الحياة، يبدو أنه تحالف غريب بين الزمن والمشاعر المكبوتة التي لم يُسمح لها بالتسكع في طرقات الأيام، إلا أنه لم ينسَ طموحه الذي كان يأكله ليصبح رجلاً ذا سلطة ومال. “يخيّل إلى أنني لا أزال شاباً مغرماً باللذة والرهانات والتحدي”.

حضرت في بالي تفاصيل تلك الرحلة من لندن إلى أكسفورد عندما كنت لا أهتم إلا باللذة في الحياة، والرغبة في الحصول على الأشياء وامتلاكها للظفر برهان التحدي، ففي فترة مراهقتي لم أكن مثل صديقي “عبد الملك” الذي جرفه الالتزام الديني، وعشق التهويل والتشدد والنذير والوعيد والعقاب، كان يلاحظ على شخصيته منذ طفولته الطاعة والنزعة إلى الهدوء والانقياد، روتيني لا يحب التجريب، وكلما ضحكنا أو تحدثنا عن النساء يصفر وجهه ويبدأ في الاستغفار، كنت عكسه تماماً متهوراً وقاسياً نوعاً ما، فقد ظللت مغلفاً بسُدَم المراهقة، تلك السُدم التي نراها تحيط بالكواكب من مواقعها النائية، كنت نزقاً ولا أسمح لأحد أن يعبر نحو مكنوناتي الداخلية إلا أنني مدين لتلك الرحلة التي غيرتني، لم تغيرني نحو الأفضل ولكنها وجهت تفكيري نحو الأقوى. والأكيد أنني أحب الإتقان في عملي وأنا مدين لأستاذ الرياضيات، علمني كيف أتقن عملي، وعلمني أيضاً أن هناك قوانين تسود هذا العالم لا بد من احترامها، فلا تفكر بانتهاكها، البعض لا

يحب معاكسة التيار، ولكنه يحب الطرق الممددة السهلة، وأنا من الشخصيات التي تحب الإبحار عكس التيار. 

فقد تعلمت أن أفهم من حولي وأكتشفهم وأول شخص مارست عليه ذكائي الماكر كان صديقي (علي المأجور) الذي لا يزال يتعمد في كتاباته الإساءة للدين ورجاله ولكل شيء يخالف هواه، فهو نصير للحرية يؤمن بخلاص الفرد من القيود الدينية والسياسية ولا يؤمن بالسياسة في صيغتها الحالية، كما أنه كافر بالسياسيين ونزاهتهم، والصراع بين الحاكم والمحكوم وصراع السلطة أخذ كل وقته، فهو مناضل في قضايا حقوق الإنسان من الدرجة الأولى – هذا ما يبدو لي – وقلق بشأن تحرير المرأة، ويؤمن بالوعي المدني الديموقراطي، وقد كان شعاره “نموت في الحياة مرات عديدة لكن في الحرب نموت مرة واحدة”. والغرابة تكمن في أنه بعد كل هذا العمر لا يزال خجولاً في علاقاته النسائية!

أراه الآن شخصاً آخر، ما أبشع الحياة عندما تضطرنا إلى أن نتبدل من أجل أن نعيش بسلام.. مُرهق الانتظار والأكثر مرارة هذه المسرحية السخيفة التي يقوم بها “علي” أمام هؤلاء الحمقى، الغريب أنهم يتقبلون كل هذا الهراء الذي يقوله ولا يعترض أحد، نعم يستحقون هذا الإذلال الذي هم فيه لأنهم لا يفكرون، هؤلاء عبدة الأشخاص، ومنذ متى ونحن في عالمنا العربي لا نقدس الأشخاص؟!  

غالباً ما يُقدم علي المأجور نفسه باعتباره مفكراً مثقفاً دون أي إشارة إلى قدرات الآخرين 

وتميزهم، كان يتمتع بقدرة نادرة على الخطابة , والنقاش الذي لا يتوقف ,يتحدث بشكل مستمر 

عن ثنائية الخير والشر، كما أنه يتحدث عن قراءة كارل يونغ للنفس، وعن التاريخ والأساطير، 

الأمر الذي يجعله مختلفاً عن غيره , تناقضاته جعلته سجين عقله وأفكاره التي تريد عبودية 

الآخرين, لذلك كان سامي هدف بالنسبة له لينتصر على غرورة ونفسه , وقد أوقعه تعاليه في 

نفور الناس منه مع أنه يدعي التواضع ,هو لا يعي تعدد أوجه الحقيقة التي تحيط به فهو 

متمركز حول ذاته , كان يتشدق بالحرية التي لم يعثر عليها أو بمعنى أصح لم يبحث عنها , إلا 

أنه يكتب كلاماً جميلاً عنها حيث يقول : الحرية هي ظرف يسمح لنا بالنمو والتغير والارتقاء . 

حاول تكوين صورة ذاتية مثالية عن نفسه أمام الناس، ويتعمد في مقابلاته التلفزيونه والصحفية 

أن يظهر التواضع، كان يردد أن الانسان المنعكسة صورة وجه على مرآة صغيرة سرعان ما 

يصبح أحمقاً , إلا أن واقعه وشخصيته المكتئبة وتعاليه واختياره اصدقاؤه, حيث ينتقي صداقاته 

كما ينتقي ملابسة , ومنظر الطبيعه يصيبه بالقرف , فالمطر يثير فيه الكآبة , والليل عديم الفائدة 

بالنسبة له , ومع انه كاتب ممتاز إلا أنه لا يأسره ولا يمنحه الإحساس بالراحة الا عندما يرى 

الاخرين يتألمون , فهو انسان غير سعيد بالرغم من الشهرة التي حققها , جنون العظمة الداخلي 

, والسوداوية الناشئة عن احباطاته وعدم وصوله لمبتغاه , وبين تمزقه بين المفكر المثقف 

العظيم وبين الحاسد الدنيء جعلته مضطرب , غالباً ما كان يتحدث عن الشر حيث يردد :روح 

الشر التي يتجاهلها البشر , احد النوازع البدائية للقلب البشري. فالشر احدى النوازع الأولية 

التي تشكل كلاً لا يتجزأ من طبيعة الانسان, إلا أن صديقه سامي أبسط منه ويثق به جداً , يترك 

أعماله ويذهب معه لمحاضراته يدعمه بشده , ويحبه حب الانداد.

خرج سامي من القاعة وهو يشعر بالقرف والقلق، توقف عند مقهى صغير على ناصية الشارع تعود أن يهرب إليه حيث لا يعرفه إلا النادل، جلس على كرسي وحيداً بجانبه طاولة صغيرة، أشعل سيجارة، أخذ نفساً طويلاً وهو محدق في السقف يراقب مروحة واقفة.

أحضر النادل بسرعة طلب سامي المعتاد، ففي كل مرة يطلب الشاي الأحمر، وهذه المرة وضعه في كوب زجاجي مليء بالنقوش، وقال: تفضل سيدي.

تناول سامي الكوب الزجاجي وبدأ يتأمله، وعلى الرغم من حرارته بدأ يحركه ويديره بكفه، شتت ذهنه هذه النقوش، تأملها كأنها فسيفساء، يا الله!.. أخذ تنهيدة عميقة وشرد فكره نحو الماضي:

كم كنت أحمق عندما كنت أقضي وقتي في “المتحف الوطنيّ” متأملاً تلك اللوحات من الفسيفساء الرّومانيّة التي تعود إلى القرن الثّاني قبل الميلاد، كانت تمثل لي التاريخ الذي أعشقه وأجلّه، أتحسس اللوحات واحدة تلو الأخرى، أستمع لها وكأنها تخبرني قصص ذلك الزمن الغابر، الذي يشبه حاضرنا الآن، البشر متشابهون بل حتى الجمادات، هذه النقوش التي على كوب الشاي جاءت على شكل دوائر تضيق من الأسفل وتتسع من الأعلى، تشبه الثورة التي جاءت مساحتها ضيقة من فرد في تونس أحرق نفسه ليرد كرامته؛ فكبرت الدائرة حتى هروب الرئيس زين العابدين بن علي، لا تزال أحداث الثورات في ذاكرتي كأنها حدثت هذا الصباح.. والآن وبعد مضي سنوات عدة لم تجلب للمنطقة العربية إلا الويلات والخراب..!

بدأت الدوائر تتحرك أمام عينيه وكأنها ستطير، فجأة ومن دون شعور قبض على كوب الشاي حتى يمنعه من الطيران، وإذا بيد تربت على كتفه، أدار رأسه بسرعة فإذا به صديقه الكاتب علي المأجور، رفع نظارته عالياً كأنه يتأمل السماء، كان يحمل بيده مفتاحه المربوط بسلسلة معقود في نهايتها صورة فيل.

  • المأجور: خرجت باكراً من القاعة، لماذا لم تكمل اللقاء؟
  • سامي: أحفظك يا صديقي وأحفظ خدعك، ولا أزال أتساءل: كيف يتسنى لك الحديث بهذه السلاسة والتدفق المرعب المليء بالأكاذيب؟!
  • المأجور: تباً لك أي أكاذيب، أنا لا أكذب ولكن “لا يجب أن نترك الناس فريسة للجهل”، هذا ما كان يوصيني به أستاذي الذي كان أحد مشائي زمنه، عندما كنت أدرس في تونس، فكل من لديه قوة في المعلومة لا يجب أن يسكت، السكوت هنا عار، يقول أستاذي محمود حسونة إنه قبل ثورة الياسمين ظل يذهب إلى شارع الحبيب بو رقيبة يومياً كل صباح، ولمدة خمس سنوات يجلس أمام تمثال ابن خلدون الشامخ الذي يحمل بين يديه كتاباً، وكأنه يقول لنا اقرأوا وتعلموا فالكتاب هو سر الوجود، يتأمل كل ما حول هذا التمثال، عمّال البناء بخوذهم الزرقاء وهم يؤدون عملهم بروتينية في أحد المباني المجاورة، هل ابن خلدون أثر على حياتهم؟

تلك المرأة السمينة التي تقطع الشارع يومياً لتمشية كلبها ذي اللون الأسود والأرجل القصيرة، هل التفتت يوماً لنصب ابن خلدون؟ عامل المقهى وهو يمشي يومياً لإيصال القهوة والدونات لموظفي إحدى الشركات هل يلقي التحية الصباحية على نصب ابن خلدون؟ عازف الغيتار ذلك الشاب النحيل ذو الملابس الملونة الذي يكسب عيشه بعزفه المذهل، هل أخبره أحد قبل ذلك أنه ثروة وطنية لو تمت الاستفادة منها ووضعها في موضعها الصحيح، فمكانه ليس في الشارع بل في مكان بارز في إحدى قاعات الموسيقى أو المسرح.. كل هؤلاء البشر ثاروا من أجل الكرامة وليس من أجل قطعة خبز، الكرامة المتأصلة في النفس والتي لا تقبل الخضوع أو الضيم أو القسمة على اثنين، هذا الذي لن يفهمه أي مستبد!

  • سامي: كأنك يا صديقي تحاول تبرير جدوى الثورة، أو تحاول أن تصفها بأشياء جديدة، والواقع أن من سمّاها بثورة الياسمين قد جانبه الصواب، فكيف لهذه الثورة التي بدأت بجسد يحترق أن تكون “ياسمين”؟!
  • المأجور: لا تعلم كم كان دمي يتدفق كينبوع ماء كلما فتحت التلفاز والشعوب تهتف بالحرية، كانت ثورتا تونس ومصر مثاليتين جداً، وشعرت ولأول مرة بأنني إنسان مكتمل، حُرّ كسر كل قيوده الثقيلة التي كانت تكبل جسده، كنت أحب لعبة الطموح والمجاملة، وأحب أن أعطي ثقتي للشعوب العاملة، لكن بعد هذه الثورات أحببت الشعوب الثائرة، فالثورة أداة للتأثير على الدولة، وقتها كنت أتمتع بشفافية مرتبطة بقراءة شغوفة للحوادث تبقيني في حالة يقظة تجاه الأدب والسياسة والإيديولوجيات، والآن وبعد سنوات من تاريخ الثورات العربية لم يعد هناك شيء يُذكر، غرقنا أكثر الآن.

سامي: ما رأيك أن ننهي هذا الحديث الدرامي الأسود فأنا جائع,إن أبغض رفيق هو الجوع .

  • المأجور: هيا لنذهب إلى المطعم، أريد طعاماً مختلفاً هذه الليلة.

بدأ المطر ينهمر بشدة، ركض الصديقان متوجهين إلى موقف السيارات لركوب سيارة سامي الرانج روفر، وبعد أن استويا فيها بدأ علي الحانق على الحياة يحلل لقاءه مع الجمهور، ويقسم أن ثلاثة أرباعهم أتوا إليه ليخالفوا ما يقول، ونعتهم بأنهم خفافيش تويتر وفيسبوك.

قطعتُ حديثه بأغنية لطلال مداح “أحبك لو تكون حاضر”، أعلم أن علياً يحب طلال مداح كإنسان قبل أن يحبه كمطرب، في هذه الأثناء كنت أشعل فيه أنوار السيارة المنخفضة كيلا أزعج سيارة أودي زرقاء تجاوزتني للتو؛ أما علي فقد هدأ قليلاً، وأخرج رأسه من نافذة السيارة بعد أن خف المطر، استنشق بقوة رائحة المطر وهو صامت. 

كانت إشارة المرور الضوئية المحاطة بالسيارات تتبدل من الأخضر إلى الأحمر والعكس دون جدوى، اجتزنا عشرات الكيلومترات وكل منا مستغرق في تفكيره، نتأمل حركة الشارع المزدحم، خرجنا خارج المدينة، مررنا بتقاطع مكشوف، لمحنا أضواء بيوت بعيدة، أوقفنا السيارة عند مدخل هذه المحافظة الصغيرة، كانت على مرتفع، وكنا نطل على البحر، أصابني شعور بالخدر، فالأحاسيس في مثل هذه الأماكن تبدأ بالتفتح والتدفق، يصبح مزاجك على ما يرام، حتى أنك تشعر بالرغبة في النوم، أخرجت من حقيبة على مقعد السيارة الخلفي اللابتوب فقد كان لدي رغبة في دخول تويتر وهاتفي المحمول نفد شحنه.

نهرني علي فجأة وقال: أنا جائع، كنا متجهين إلى المطعم، طلبت منه أن ينتظر نصف ساعة فقط أريد أن أكتب في تويتر، إلا أن علياً غير الصبور توعد وهدد أن ينزل من السيارة، استسلمت له وأثناء تحريكي سيارتي خرجت علينا سيارة كبيرة فجأة سمعت صوت صرخة مكتومة وجسداً يتدحرج على الأرض، عمّ الهدوء إلا من صوت بعض المارة، رفعت رأسي وأنا لا أحس بجسدي والدماء تلطخني، يبدو أن إحدى قدمي قد كسرت، لم أفكر في نفسي، كنت أبحث عن علي، استدرت برأسي إلى الجانب الأيسر من الشارع وإذا به ملقى على الرصيف، أرخيت جسدي على الأسفلت وبصري شاخص إلى أعلى وكنت أردد: الحياة مثل رمية نرد، وحياتنا محسومة منذ الولادة، وحتى لو كنت صلباً وذا إرادة قوية فهي لن تنفعني بشيء، وعلينا أن نستسلم لهذا المصير، فالموت هو نهاية مأساوية آتية إلينا لا محالة، من سيحمينا من الموت؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى