الحياة العريضة

أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

روي أن ابن سينا كان يسأل الله أن يهبه حياة عريضة وإن لم تكن طويلة، ويبدو أنه يعني بالحياة العريضة أن تكون حياته غنية بالتفكير والعمل والإنتاج، فقد كانت رؤيته أن المقياس الصحيح للحياة هو مقياس الإنتاج المثمر، وليس مقياسها طولها إذا كان هذا الطول فاقد الثمرة؛ فكثير من الناس ليست حياتهم إلا يوماً واحداً متكرراً، فبرنامجهم لا يتغير؛ طعام وشراب ونوم، أمسهم كيومهم، ويومهم كغدهم، وهؤلاء وإن عمروا كثيراً فحياتهم لا تغادر يوماً واحداً، على حين أنه قد يقاس يوم واحد بعشرات السنين إذا كان عريضاً؛ فقد يوفق المفكر في يومه إلى فكرة تسعد الناس أجيالاً، وإلى عمل يغير شكل العالم، وحياة كهذه وإن بدت قصيرة إلا أنها تساوي أعمار آلاف، بل قد تساوي عمر أمة كاملة.
ومن ذلك ما رواه القدماء عن “طاليس” الذي تنبأ بكسوف الشمس الكلي باعتماده على معلوماته الفلكية، فأخذها عنه الفينيقيون وصار مخلداً من هذا الباب. ومن المخلدين في مضمار الحياة “فيثاغورس” الذي أسس تراثاً علمياً باقياً إلى الآن؛ فقد اكتشف العلاقات العددية البسيطة لما نسميه حالياً بالمسافات الموسيقية، وفكرته الخالدة بأن الأشياء كلها أعداد، وأننا لكي نفهم العالم لابد أن نعرف العدد في الأشياء، إضافة إلى نظرياته الرياضية المعروفة.
وكان “الرازي” من أصحاب الحياة العريضة، فقد بدأ حياته مغرماً بالموسيقى، ولكنه لم يلبث طويلاً حتى بدأ دراسة الفلك والكيمياء والطب، فصار علماً من أعلام العرب. كما يعد من عمالقة علماء الكيمياء، وكان الغربيون والشرقيون يعتبرونه مؤسس الكيمياء الحديثة، كما اهتم بالنواحي النفسية في العلاج وفق ما توصل إليه علماء الطب في العصر الحديث.
ومن أصحاب الحياة العريضة في عصرنا الحالي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله؛ فقد أسس بفكره وخالص عمله دولة وأمة من الأمم المتحضرة، وقد كان رحمه الله صاحب عقيدة راسخة في أن شعب الإمارات يستحق أن يكون في صدر العالم وصدارته، فثبت على عقيدته ثبوت الشمس، وهي عقيدة لا تقف عند حد الكلام، وإنما تستتبعه بعمل على وفقها. وقد بلغ المراد وصارت الإمارات وفق ما أراد. ومن خالط الشيخ زايد رحمه الله يعرف عنه أنه ومن فرط فطرته النقية وعزيمته الأبية كأنه مُنح من الحواس أضعاف حواسه، ومَلَك من المَلَكات ما لا يُعدّ بجانب ملكاته. عَرف غايته في الحياة، ووضع لها خططاً، فكانت له فلسفة ليست من جنس فلسفة أفلاطون وأرسطو؛ ولكنها فلسفة شخصية بنيت على فطنة تبعث على الحياة والخلود.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قال عز من قائل: { ‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة‏:‏ 11‏).
    فلا نهضة بلا علم ….. سلمت أناملك على هذه المقالة الأكثر من رائعة والتي خُتمت بالمسك، فرحم الله الشيخ زايد وأسكنه الفردوس الأعلى..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى