خلف الجدران .. قصة قصيرة

جاسم الحمود  | سوريا

 

– 1 – 

على نغماتِ كلامهِ تفّتحتْ أنوثتي، صرتُ أقفُ أمامَ المرآةِ كثيراً، أتأمّلُ جسدي، أتحسسُّ طيّاتهِ، أستكشفُ مفازاتهِ، أسيرُ في صحرائهِ، فتلهبني حرارتهُ وسرابهُ، أبحثُ عنْ واحةٍ أو نخلةٍ، أستلقي تحتَ ظِلّها، وأغفو بانتظارِ أنْ توقظني لمساتهُ، لمساتٌ بحرارة جسدٍ يحترقُ، لمساتُ أصابعَ كالصواعقِ لجسدٍ كلّهُ قنابلٌ موقوتةٌ

ها هو يطلُّ منْ نافذتهِ، تخترقُ أنفاسهُ الزجاجَ، تلسعُ وجهي بحرارتها وجرأتها، تجتاحني نظراتهُ ..مثلَ خيولٍ بريةٍ تستبيحُ سهولي، وقعُ حوافرها يوقدُ في صدريَ ألفَ بركانٍ وبركانٍ ، يبتسمُ …فتنسكبُ أنهارٌ من الزيتِ، تزيدُ نيراني اشتعالاً ، فأحترقُ بلذةٍ وخدرٍ .

ابتسامتهُ تحاصرني ، تتسلّقُ أسواري ، تدكُّ أبوابَ الرهبةِ ، وتحطّمُ الصفيحَ الصدئ ، تتسلقني ابتسامتهُ …

فتنطفئ مقاومتي ، وتستسلمُ شفتاي ، وترسمان ابتسامةً ورديةً …

يلوّحُ بيدهِ ، فينتفضُ قلبي ، وتلوّحُ يدي ، يغلقُ نافذته…أبقى وحيدةً ، أغمضُ عينيَ ، تكتسي السماءُ بلونٍ ورديٍ ، أحلّقُ عالياً ، هلْ هو الحبُّ ؟.

سؤالٌ يكبرُ، يتضخّمُ ، يمتدُّ بين الروحِ والجسدِ ،بين القلبِ والعقلِ ، هذا الذي يكسو الأشياءَ ثوبَ البهجةِ والحضورِ الناصعِ ، الذي يجعلُ لوناً ومذاقاً لكلِّ شيءٍ ، ويجعلُ كلَّ مذاقٍ ألذَّ وأشهى ، وكلَّ لونٍ أزهى و أجملَ ، هذا الذي يبعثُ الحياةَ في الدنيا ، ينمّي البرعمَ ، ويُفَتّحُ الزهرَ ، ويدْنيَ الثمرَ ، ويُكَبِّرُ الحلمَ ، هلْ هو الحبُّ ؟. 

 

– 2 –

عندما ولدتُ ، فرحَ أهلي كثيراً ،الناسُ يفرحون لولادةِ الصبي ، أمَّا أهلي ففرحوا لأنّـي البنتُ الوحيدةُ بعدَ ثُلّةٍ من الشبابِ.

مثلَ برعمٍ صغيرٍ نشأتُ محاطةً بالكثيرِ من الرعايةِ والاهتمامِوالحراسةِ , بين جدرانٍ أربعةٍ نشأتُ وكبرتُ ، أهلي يخافون عليّ ، جمالي 

قاتلٌ كما يقولون ،ولا يريدون أنْ يفسدهُ أحدٌ … 

 رافقتني الجدرانُ منذُ طفولتي حتّى أخيَ المغترب أرسلَ لي هديةً في عيدِ ميلادي الخامسَ ، مكعباتٍ ملونةٍ لأبنيَ منها جدراناً ، حتى في نومي تحاصرني الجدرانُ ، وأحلامي لا تتعدى حدودَ البيتِ.

مضتْ سنواتٌ كثيرةٌ ، وأنا أصارعُ الساعاتَ والأيامَ ، أتأمّلُ نفسي في المرآةِ ،وأغمضُ عيني ، فأرى فارساً وسيماً على جوادٍ أبيض ، يدكُّ الجدرانَ بسيفهِ ، ويأخذني بعيداً ، لم أشعرْ بطعمِ الحياةِ حتّى رأيتهُ ، كانَ ينظرُ إليَّ بغفلةٍ مني ، ينظرُ إليَّ بدهشةٍ بريئةٍ ،

 

 ارتبكتُ بسعادةٍ، أحسستُ بنظراتهِ تخترقُ جسدي ، شعورٌ غريبٌ سيطرَ عليّ … 

عرفتُ لأولِ مرةٍ في حياتي كيفَ تكونُ نظرةُ الرجلِ للمرأةِ.

نظراتهُ تخدّرُ عقلي ، وتلهبُ جسدي بالسياط ، تصلُ مكامنَ الألمِ ، وتكشفُ ما يجولُ في خاطري.

نظراتهُ تعرّيني ، وتفضحُ أفكاري ، تكشفُ عن الظمأ الحارِ للأخرِ ، هذا الظمأُ يتحوّلُ إلى نارٍ تحرقني بسعادةٍ …. 

فأتمسكُ بها ، وأقاومُ كلَّ محاولةٍ لإطفائها.

هذا الظمأُ منحني الشجاعةَ ، فبادرتهُ الكلامَ ، وتكررتْ اللقاءات مراتٍ في اليومِ الواحدِ.

 

–  3 –

اتكأتُ على طرفِ النافذةِ ، وأحلامي ترفرفُ حولي ، أطلَّ بابتسامتهِ الهادئةِ ، وأنا أرتعشُ فرحاً . 

– سأسافرُ.

نطقها بكلِ حروفها دفعةً واحدةً ، لمْ يخش عليّ من وقعها…

= يسافرُ ؟! .

ويتركني وحيدةً ، ماذا أفعلُ ؟  .

يسافرُ ، ويتركُ الأحلامَ والأماني والقنابلَ الموقوتةَ … ماذا أفعلُ بها ؟.

هلْ أخنقُ أحلامي لتصبحَ أكبرَ وأشدَّ مرارةً ، والقنابلُ الموقوتةُ هلْ أفجّرها ليزدادَ انشطاري انشطاراً ؟ !.

= تسافرُ ؟ وأنا ماذا أفعلُ ؟.

– سأعودُ في أقربِ فرصةٍ لأخطبك ، سأتصلُ بك كلَّ يوم ، أعدك بذلك ، لقد أنهيتُ دراستي ، ويجب أنْ أعودَ للقرية.

ثمَّ رحلَ … رحلَ هكذا بكلِّ بساطةٍ ، وكأنّ شيئاً لم يكن ، كأنَّ الليلَ لم يأت يوماً ، وكأنَّ النجومَ لمْ تسهر.

في بداياتِ غيابه كان يتصلُ بيَّ كلَّ يوم عندما يكونُ السجن خالياً إلّا منّي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى