من إشكاليات الترجمة الدينية.. تأكيد المدح بما يشبه الذم (29)

أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات – جامعة جنوب الوادي – مصر

 

وهو أحد الأساليب البلاغية البديعة، تعتمد على أن يمدح الشخص ثم يستثنى من هذا المدح ما يظن معه أنه ذم، ثم يأتي المستثنى مؤكدا للمدح.  مثل قول الشاعر:

 ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم 

بهن فلول من قراع الكتائب

 ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش) – وقريش هي أفصح قبائل العرب.

ومنه قول النابغة:

فتى كملت أخلاقه غير أنه

جواد فما يبقي من المال باقيا

ومنه قول الشاعر مدحا في النبي صلى الله عليه وسلم:

حلو الشمائل لكن فيك رائحة

تزكو على عنبر والمسك والزبد.

 وقد وقع مثل ذلك في القرآن الكريم. في قَوْلُهُ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 59]، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ- بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ الْخَارِجِ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ عَلَى مَا عَابُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِيمَانِ- يُوهِمُ أَنَّ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يُنْقَمَ عَلَى فَاعِلِهِ مِمَّا يُذَمُّ بِهِ، فَلَمَّا أَتَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا يُوجِبُ مَدْحَ فَاعِلِهِ كَانَ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ.

ومنها قَوْلُهُ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التَّوْبَة: 74]، وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الْحَجّ: 40]، فَإِنَّ ظَاهِرَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ مَا بَعْدَهُ حَقٌّ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ فَلَمَّا كَانَ صِفَةَ مَدْحٍ يَقْتَضِي الْإِكْرَامَ لَا الْإِخْرَاجَ كَانَ تَأْكِيدًا لِلْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ.
ومنه : {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الِوَاقِعَة: 25- 26]، اسْتَثْنَى (سَلَامًا سَلَامًا) الَّذِي هُوَ ضِدُّ اللَّغْوِ وَالتَّأْثِيمِ فَكَانَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِانْتِفَاءِ اللَّغْوِ وَالتَّأْثِيمِ.

فإذا نظرنا للغة الإنجليزية، وجدنا أن الاستثناء فيها ليس بنفس العمق التركيبي ولا البلاغي العربي. فالإنجليزية تستخدم ألفاظا مثل  except, but  وضمائم مثل  except for, for nothing but, for no more than, excluding  حسب السياقات المختلفة، وكلها لا تعني سوى عين الاستثناء، وبالتالي ينبغي على مترجم معاني القرآن استخدام وسائل إضافية لتقريب المعاني البديعة لهذا الأسلوب البلاغي… فلننظر في بعض الترجمات:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون.

Sahih International: Say, “O People of the Scripture, do you resent us except [for the fact] that we have believed in Allah and what was revealed to us and what was revealed before and because most of you are defiantly disobedient?”

Pickthall: Say: O People of the Scripture! Do ye blame us for aught else than that we believe in Allah and that which is revealed unto us and that which was revealed aforetime, and because most of you are evil-livers?

Yusuf Ali: Say: “O people of the Book! Do ye disapprove of us for no other reason than that we believe in Allah, and the revelation that hath come to us and that which came before (us), and (perhaps) that most of you are rebellious and disobedient?”

Shakir: Say: O followers of the Book! do you find fault with us (for aught) except that we believe in Allah and in what has been revealed to us and what was revealed before, and that most of you are transgressors?

Muhammad Sarwar: (Muhammad), say to the People of the Book, “Do you take revenge on us because of our belief in God and what He has revealed to us and to others before us? Most of you are evil-doers”.

Mohsin Khan: Say: “O people of the Scripture (Jews and Christians)! Do you criticize us for no other reason than that we believe in Allah, and in (the revelation) which has been sent down to us and in that which has been sent down before (us), and that most of you are Fasiqun [rebellious and disobedient (to Allah)]?”

Arberry: Say: ‘People of the Book, do you blame us for any other cause than that we believe in God, and what has been sent down to us, and what was sent down before, and that most of you are ungodly?’

نلاحظ هنا أن المترجمين تباينوا في ترجمة الآية لمحاولة بيان طبيعة الاستثناء فيها، وتركزت الاختلافات بينهم في ترجمة الفعل نفسه، وفي ترجمة أسلوب الاستثناء. فبالنسبة للفعل؛ استخدمت الأفعال التالية:

Resent us …for بمعنى يستاء ويمتعض

Blame us for بمعنى يلوم و يؤنب

Disapprove of us for بمعنى يستهجن و يؤاخذ

Find fault with us for بمعنى يلتمس العيب

Take revenge on us  بمعنى ينتقم

Criticize us for بمعني ينتقد

وكلها كما ترى ظلال معاني للفعل (تنقمون) غير أنه – بالتأكيد – لا يدل على الانتقام  take revenge، وإن اشتمل على معاني النقد المرير، والمؤاخذة واللوم والاستهجان والاستعياب، يزيد على ذلك ان اشتقاق الفعل (ينقم) يدل كذلك على غلالة في القلب تتراءى خلال هذا النقد والاستهجان، وهو ما تفقر إليه معظم الكلمات المستخدمة ما عدا  resent.

أما ترجمة أسلوب الاستثناء، فقد ترجم كالتالي:

Except for the fact that

For aught else than

For no other reason than

For aught except

Because of

For any other cause than

وكما ترى، هناك تباين في ترجمة أسلوب الاستثناء كما كان هناك تباين في ترجمة معنى (تنقمون). واضطر المترجمون إلى إضافات للدلالة على معنى الاستثناء العربي: فبعضهم أضاف  the fact that  بمعنى (تنقمون منا حقيقة  إيماننا)، ومنهم من استخدم  aught else /except  بمعنى لا نجد ما يوجب النقمة منا سوى أن آمنا) ومثل هذا الأسلوب لا يفيد تأكيد المدح في الإنجليزية، ولكنه يفيد التوبيخ والتقرير. وأما سرور فقد أسقط الاستثناء تماما و استخدم بدلا منه  because of حتى يناسب الفعل الذي استخدمه (revenge) فجاء المعنى (هل تنتقمون منا بسبب إيماننا) وهكذا ضاع الاستثناء وقيمته البلاغية تماما. والباقون استخدموا  for no other reason / cause than بمعنى لا نجد سببا لنقمتكم سوى ان آمنا، وهو كذلك أسلوب للاستثناء في الإنجليزية يفيد التوبيخ أكثر مما يفيد تأكيد المدح.

نلاحظ كذلك أن علامة الاستفهام (لهل) وضعها المترجمون جميعا – إلا واحدا- في نهاية الآية، وهذا يعني أن المستثنى الآن أمران: أن آمنا بالله، وأن أكثركم فاسقون. وبهذا التركيب، فلابد أن توضع  and for that  قبل (أكثركم فاسقون)، وهنا ما لا نجده سوى عند بكتول والدولية الصحيحة اللذين  يستخدمان  and because  بمعنى ان نقمتكم سببها فسقكم، وليس المعنى أن فسقكم هو ما تنقمونه منا.

 وهكذا فالأساليب البلاغية في العربية لها تراكيب ودلالات قد لا يمكن التعبير عنها بسهولة في الإنجليزية لاختلاف النظام التركيبي والدلالي في اللغتين، ولاختلاف ما يفهم من دلالات بلاغية عند العرب ولا يوجد نظيره في الإنجليزية.

والله أعلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى