حتى مطلع الفجر.. قصة قصيرة

سامح ادور سعدالله  | كاتب وقاص مصرى

 

يخرج كل يوم فجرا حاملا فأسه، طالبا وجه كريم كى يرزقه الرب قوت يومه، ناظرا للعلا، مشاهدا السماء, والنور ساطع بقوة، حاملا في قلبة فجرا جديدا، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، مرددا أغنية  قديمة. أكمل المسير حيث يجلس كل يوم, لم يجد أحدا من زملائه العمال …. اندهش ! لم تطل دهشته كثيرا، جلس القرفصاء، دفن رأسه بين قدميه, يسأل نفسه:

أين باقي الرفاق؟

أين عم مسعود بائع البليلة؟

هذا الرجل الذى يأتي كلَّ يوم؛ يفطر هو وباقي شلته!  أين الفلاحون السارحون بمواشيهم للحقول؟

وأين المصلون كالعادة كل يوم؟

كل هذا التفكير و لم يشكّ لحظة في نفسه، أنه هو الذى خرج مبكرا قبل الفجر بساعتين أو أكثر. اكتفي بالنظر إلى السماء من طاقة البيت، وجد نور القمر قويا. ظن أنه تأخر هذه الليلة؛ خرج مسرعا. تقسو البرودة أكثر ينكمش أكثر يعود ويتلفت من حين لآخر منتظرا قدوم أي شخص، أبدا لم يظهر أحد, سوى كلاب الليل تجرى في قطعان، أو قط يطارد آخر، لم يخفه كل هذا, فقط صوت عواء الذئاب القادم من أعلى الجبل أخافه, فسكون الليل يسمح بعبور الصوت لأبعد مكان. والذى يجعله مطمئنا بعض الشيء هذه البركة التي تبعد خلفه قليلا، وتلك المساحة الصفراء أسفل الجبل  بعد البركة المتاخمة للقرية, فهو لازال بعيدا عن مناطق الخطر, بعيدا عن ذئاب الجبل, والزواحف السامة المتخفية بلونها البني الداكن بين شقوق الجبال المرتفعة. مرق طفل أمام العامل، وكزه في إحدى رجليه، رمقه العامل، لحظة واختفى الولد. ارتجف الرجل من سرعة الموقف، فكر في العودة إلى المنزل، لئلا  يصيبه مكروه؛ فلربما تكون هذه المنطقة بما فيها البركة يسكنها الجن والعفاريت، رغم كل هذه الأوهام هو نفسه لم يشاهد أبدا مثل هذا من قبل.

فضل أن يقضي وقته بالمشي ذهابا وإيابا حتى يأتيه باقي الشلة.

شرع يغنى أغنية قديمة  متوارثة من أجيال بعيدة بهمهمات غير مفهومة.

سمع صوت حجر اصطدم بقوة في تلك البركة،  وسمع صوت حركة بين العشب الجاف، شيئا فشيئا تخرج حية من بين الأعشاب والغاب المنتشر على طول البركة، ترفع رأسها وكأنها منسجمة مع صوت غناء العامل؛  كانت ترقص وتدور، وتقترب منه…. لم يخف منها.

انتشر ظلام دامس بالمكان واختفي القمر … ارتعب …. هرول يمينا و يسارا ….اصطدم بالأشجار والنخيل خائفا من تلك الحية, لم يشاهد شيئا, لكنه سمع صوت حفيف الأفعى  بين العشب. لمح زحفها بالكاد متحسسا طريقه إلى حيث كان يجلس،  صمت يسود المكان. انفجر نور قوي في نفس اللحظة التي لفظت فيها الأفعى بلورة تشع نورا قويا. تأكد أن هذه البلورة ما هي إلا جوهرة عظيمة الثمن، ولكن؛ كيف يجرؤ على أخذها؟  فمتى حاول قنصها سوف تفتك به الحية. تابع الحية، التي ترعى قريبا منها، زاحفة بين العشب النديّ، تصدر فحيحا، و هو يتابع صامتا. دقائق كثيرة مرت, حتى عادت الأفعى إلى البلورة حيث لفظتها و عادت تبتلعها مرة أخرى،  فعاد نور القمر في تلك البرهة التي غابت فيها البلورة  داخل فم الأفعى.  تابع الحية حتى انزوت بين الغاب العالي واختفت عند البركة. بعد قليل سمع صوت الأذان،  حضر  عم مسعود قادما من بعيد يدفع عربته الخشبية إلى حيث يفرش كل يوم. سمع صوت أقدام البشر، منهم المصلون المتوجهون إلى الجامع، ومنهم العمال من رفقائه، والفلاحون بماشيتهم لترعى على ضفاف البركة،  حيث الكلأ طوال يوم الشتاء القصير،  تحت دفء الشمس. أقبل العامل إلى عم مسعود  ليتناول  إفطاره كالعادة كل يوم,  وبينما يأكل العامل، سأل عم مسعود عما جرى معه, ضحك عم مسعود و قال له: “وانت شفت كل ده؟”

العامل: “نعم.”

عم مسعود: “انت عملت إيه؟”

العامل: “وقفت متخشب مكاني أبص بس.”

أخبره عم مسعود أنها كانت فرصة ذهبية قد فقدها، و كنزا كبيرا. و قال له إن  الولد الذى وكزه هو رصد اللقية، والحية هى حارسة الكنز، وتستغلها أيام الظلام. قاطعه  العامل مندهشا؛ ففي تلك الليلة كان القمر ساطعا. ضحك عم مسعود: “ما هو ده السر وانت مفهمتش الليلة.” و شرح له كيفية الحصول على الكنز؛ كان يجب عليه أن يضع شيئا على الجوهرة …  قفة، أو أي شيء من هذا القبيل فتخاف الحية و تهرب و يفوز هو بالكنز.

أكمل العامل يومه مكتئبا فكر في اليوم التالي أن يخرج في نفس الوقت كالبارحة، ولكنه لم يجد شيئا, وبعد شهر أعاد نفس المحاولة، بنفس السيناريو، وارتدى نفس الزي،  ونفس الوقت، وذهب إلى نفس المكان،  وانتظر خروج الحية، لكنه شاهد الكلاب تجري في قطعان، وقطا يطارد قطا، وسمع صوت ذئاب الجبل, حتى  سمع  صوت الأذان. وجد عم مسعود قادما يتبعه المصلون، ثم الفلاحون خلف مواشيهم. ولم تخرج الحية.  أكمل يومه حزيناً مكتئباً, انتظر عاما كاملا، و حسب الميعاد بالضبط, باليوم, والساعة، والمكان المعتاد،  ارتدى نفس الزي، وحمل نفس الفأس بنفس الطريقة، وشرع يغني أغنيته القديمة، و جاء كل البشر، ولم تخرج الحية, ولم يأت عم مسعود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى