العقل وسُنّة التنوّع والاختلاف (2)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

فهل جنى العقل على نفسه باختلافه؟ أم جاء هذا الاختلاف سنة كونية أراد الله بها للعقل التنوع والتفرد فصرف البعض هذا العطاء إلى غير ما أراد الله، فجاء بعضه نقمة على العقل ندت به عن الحق، وشطحت به في غيابات العمى والعمه؛ ذلك هو الحيف الذي اختلف فيه على ربه وخالقه، ثم افتأت به على شرعه حين هيأ له غروره أن يكون له حكما أو تعديلا أو تغييرا فيما شرع، أو حكم أو أمر.

وتلك قضية استحق أن يُبذل لها جهدا جهيدا؛ وقد أضنت في تفهمها العقول، وحارت في بنياتها الفكر؛ حيث اعتبر بعضها (صراع بين الحق والباطل)، وبعضها بين الفرق والطوائف (أيها أقرب إلى الحق وأدنى للصواب)؟ كان ذلك في  كثير من الأزمنة، حتى قفزت إلى عصرنا، فتلقفها أدعياء الحداثة والتنوير وما بعد الحداثة؛ فطاروا بها كل مطار، وذهبوا بها كل مذهب، فمن اهتدى، فقد جعل الحق أصلا والكتاب والسنة مرجعا ومردا، ومن ضل فقد أرجع حكم الشرع إلى العقل، فضل بعد الهدى، وغوى بعد الرشد “وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.. ” [المؤمنون].
عندما أُهبِط الإنسان إلى الأرض ـــ كما يقول صاحب الظلال ـــ جعل له من النواميس الكونية ما لا يقع تحت إرادته؛ بل أُجبِر الإنسان أن يكون تحت إرادة هذه النواميس في كثير من قوانينها، فجاء أسيرا لحركة الفلك والليل والنهار، والماء والهواء، وتغيير الفصول، وما يموج في جسده من حركة التنفس ودورة الغذاء والبيولوجيا والقلب والدم . وغير ذلك من نواميس الكون والحياة التي حِيل بين إرادة الإنسان وبينها؛ بل جعل الإنسان مسيرا لإرادتها، لئلا يقوده التحكم فيها إلى فساد الكون وفساد ذاته، كما أفسد في كثير مما آل أمره إليه من معطيات الكون والحياة.
ثم جعل الله له من الشريعة والحكم ما يكمل هذه المنظومة (الربانية)، والناموس الإلهي؛ فكما حفظ له الكون بنواميسه الطبيعية وحياته بقوانينها البيولوجية، شاء أن يحفظ له حركته التي يملكها في الحياة، وكذلك نفسه و(عقله) ذاك الذي جعل له إرادة وحكما واختيارا لما علم الله عن الإنسان قصوره فيما يحفظ ذلك؛ فألهمه الفطرة الربانية التي لا تزيغ ولا تحيد”فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله”، ثم سَنَّ له الشريعة التي تكمل هذه الفطرة وتصونها من الخلل والزلل؛ لكن لم يلبث العقل أن طال به الأمد فاجتالته الشياطين وجرف به سيل الهوى عن جادة الطريق، فكان إرسال الرسل تذكرة وموعظة وإحياء لفطرة التوحيد، وتجديدا للعهد الأول، وتحسينا للشرائع فيما يناسب أحوال البشر وما طرأ على سننهم من التغيير”كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)”[البقرة].
فلم يلبث العقل أن انتقل من اختلاف المسموح، إلى اختلاف الممنوع فاجترأ بفكره على ما لم يبلغ علمه فيه مبلغا، أو ما ليس له به علم، ولا قدرة  تبلغه كي يسرف في الإمعان في فهمه، فاستعاض عن التفكر في علوم الكون والإنسان والطبيعة والحيوان والنبات، وما يحفظ النفس والعقل بهذا الذي يزهق سعيه وجهده، وينبتّ فيه علمه، ويضني فيه مطيته ثم هو آخرا لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى..
وحين بلغ العقل في مراحل العلم الكوني مبلغا رأى فيه أن (استغنى)، فجاءت طفرات المدنية ونواتج الحضارة تسجل هذا القفزة العملية الكونية، وتنقل الإنسان إلى آفاق الفضاء وأعماق البحار، وأغوار الأرض، وتضيف إلى رصيده من الترف كل يوم شكلا ولونا وطعما؛ وكلما جمع الإنسان من وسائل الحضارة ومقتنيات الترف، كلما فقد بقدره من رصيده الروحي وسكينته النفسية وطمأنينته القلبية واتزانه العقلي .. إذ كلما ارتقى، جمح به غرور النفس إلى فرية التملك والاستغناء “كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)” [العلق].
وقد كان استقبال العقل لهذا الشرع المنزل من ربه، المرسل به الرسل؛ والذي جاء على فترة من الرسل حين جمحت بالبشرية مطايا الجهل إلى دركات الشرك وظلمات الكفر، وأشربت تلك العقول الغائبة فيما خلف الآباء، وما ابتدعته آثار الجاهلية الغابرة.. فكان العقل على درجة من الاختلاف في استقبال هذا المنهج الذي ورد عن الله؛ فمن باق مستمسك على ما وجد عليه آباءه “بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)”[الزخرف]، وهو منكر للرسل ومكذب بالبعث..ومن مؤمن بما جاء من الحق فأذعن له وصدق المرسلين، وهم الذين أسلموا قيادهم لربهم فعلموا أن “له الخلق والأمر”، وهم الفرقة الناجية.
وأما الفريق الثالث فهو محور الحديث ومدار الاختلاف: وهم الصنف الذي آمن بما جاء من عند الله وشهد بصدق بالرسالات، ثم جمحت بهم مطايا العقل بعد ذلك فغابت بهم في أودية من الضلال والتيه، وتنكبوا عن الصراط مقتفين هدى العقل المزعوم، يحتكمون إليه فيما جاء الشرع، فما وافق العقل أقروه، وما خالف العقل من نص الوحي تأولوه ليطابق حجج العقل، أو ردوا بعضه مما لم يوافق رؤى العقل ومثبتاته. وهؤلاء هم الفرق الذي ذم الله من أهل الكتاب الذين “يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض”، و”يحرفون الكلم عن مواضعه “، ومن سار على نهجهم، واتبع سننهم من شيع هذه الأمة وفرقها.

ذلكم هو الاختلاف الذي عنى النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أبوأمامة، قال: «اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً سَبْعِينَ مِنَ النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاخْتَلَفَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً إِحْدَى وَسَبْعُونَ فِرْقَةً فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ». فَقُلْنَا: انْعَتْهُمْ لَنَا، قَالَ: «السَّوَادُ الْأَعْظَمُ» (المعجم الكبير للطبراني).
وهذه الفرق التي حذت حذو من قبلها من الأمم، قد أقحموا العقل فيما لا طائل فيه من أمور لا يبلغ حد القطع فيها واليقين؛ فمن متكلم في “القدر، والجبر والاختيار (القدرية)، ومن اقتفى المتشابه من القرآن يتتبعه (يضرب الكتاب بعضه ببعض)، ومن داع بخلق القرآن (المعتزلة)، ومن جعل له ظاهرا وباطنا (الباطنية)، ومن داع بالإرجاء” لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة”، وجواز منازعة الحكام (الخوارج)، ومن أسقط عدالة الصحابة وسبهم (غلاة الشيعة)، والمعطلة والمشبهة، وغيرهم، ومن سار في ركابهم، وغيرهم، وهم الفرق التي ذم الله في كتابه” إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)”[الأنعام].، وأخبر عنهم – صلى الله عليه وسلم – “عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْفَجْرِ، ثُمَّ وَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ؟ فَأَوْصِنَا. فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسَنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» وقالَ أَبُو عَاصِمٍ مَرَّةً: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (رواه أصحاب السنن) وإسناده صحيح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى