ثلاث قصص قصيرة

د. قائد غيلان | اليمن

  1. اليوم الواحد والعشرون:

لا أخشى شيئاً مثلما أخشى القُبل، ترعبُـني القُبلة، ويفزِعُني تلاقي الشفاه، حينما تطبع إحداهن قبلة على خدي فكأنما تغرس فيّ سهما أو إبرة صدِئة. لا أدري لماذا كل هذا الشغف بهذا السلوك البدائي العنيف، كل قُبلة تخرجك من بشريتك وتحيلُـك وحشاً كاسرا.

تجتمع النسوة حول والدتي، ولا يفعلن شيئاً غير التقاطي من مرقدي، كم أكره ضحكاتهن وهن يتناقلنني من كفّ إلى كفّ ومن حضن إلى حضن. كيف أواجه عدوانيتهن المفرطة، وكيف  أقوى على مسامير وجوههن وأفواههن وعمري لا يتجاوز العشرين يوما ؟! عشرون يوما هي كل عمري حتى الآن، قضيت نصفها مستسلما لثقالتهن، ونصفَها الآخر نائماً أواجه كوابيس قبلاتهن المزعجة. حلمت يوما أن تلك السمينة خطفتني من حضن أمي وانهالت عليّ تقبيلا مُبرِّحا، صرخت بأعلى صوتي فجاءت تلك النحيفة تضمني بعنف إلى يابس هيكلها العظمي، كانت تقبلني وتتمتم بشيء يشبه سجع الكهان أو أغنية صينية قديمة.

 بالأمس القريب حلمت أن إحداهن أخذتني عُنوة من بين ذراعيّ أمي وهربت بي إلى الحقل القريب؛ قمت مفزوعا لأجدني في حوض ماء وأربع أيدي تتلقف جسدي الضعيف، تلك الشرسة كانت ترفعني من الماء، تقبلني ثم تعيدني إليه، وسيلة مبتكرة لتعذيب ثلاثي الأبعاد: ماء ساخن، كفوف غليظة، وبينهما قبلات تشبه حُقَن التطعيم.

تهمس لي إحداهن: متى ستكبر أيها الشقي ؟ كدت أضحك من شدة الغيظ لولا أن فكيّ ليسا مهيئين بعد للضحك، فبكيت بكاء مُرّاً. في هذه اللحظات مدت إحداهن يدها إلى صدرها وغرست في فمي شيئاً يكاد يفترسني.

اتخذتُ قراراً صارماً بعدم البكاء فكانت المفاجأة؛ كل نساء القرية تجمّعن يقبلنني بحنوّ لم أعتد عليه، هل رقّ طبعُ النساء أم أني اعتدت على هذا النوع من العذاب. عدت إلى البكاء فتلقيت سيلاً آخر من القبل، اكتسبت وعياً بأهمية بكائي، فصرت أصرخ بكل قواي كلّما سمعت أصوات نسائية جديدة، أحرّك رأسي في كل الاتجاهات حتى يصل الصوت إلى أعمق نقطة في إحساسهن.

في اليوم الواحد والعشرين من عمري أصيب جسدي بحبوب صغيرة حمراء، امتنعت فجأة كل النساء عن تقبيلي، وها أنا في حزنٍ عميق وحيرة شديدة، فلا بكائي يمنحني القُبَل، ولا سكوتي يدرُّ عليّ شفقتهن، ولا شكلي مايزال مغرياً لذلك الصنف من خلق الله المغرم بتقـبيل عبده الرّضيع ..

***

  1. منارة:

قضمت التفاحة وهي تهمُّ بالخروج قبل الفجر، وضعت الكرتون على قارعة الطريق. نظرت إلى المنارة بذهول. لأول مرة يسمع الطفلُ صوت المؤذن ” الله أكبر .. الله أكبر” ومازال يسمع أقدام أمه تبتعد عنه وعن صوت المؤذن. تساءل هل هذا الكرتون حاضنته الجديدة وأمه الحنون .. ؟!

وصلت البيت وضعت رأسها على المخدة، تذكرت أنها لم تقطع الحبل السُّري، قفزت مهرولة تذرع المسافة بين منزلها وبين الكرتون، قبل أن تصل تخيّلت منظر النسوة وهن يتحلقن حول الكرتون، كل واحدة منهن تدعي أنها أول من رآه وهي الأحق بتربيته. عادت إلى بيتها دون ثديين ودون حبل سُرِّي ودون قلب أو كبد، تبرّعت ببقية أعضائها لكلية الطب الوحيدة في البلدة، وأمضت بقية عمرها تبيع الأحذية المستعملة في السوق القديم ..

مازال الطفل يسمع وقع أقدام المارّة، تمنى لو يستطيع أن يفتح فجوة في البطانية ويصرخ بأعلى صوته، مرّت كثير من الأقدام الرجالية، ليس هنالك امرأة واحدة تخرج في هذا الوقت لتؤدي صلاة الفجر، الكرتون يحتضن الطفل بحنو، والرّضّاعة على بعد سنتمترات من فمه، صوته الضعيف لا يسعفه أن يصرخ، هو نفسه لا يدري لماذا كتم صوته كل هذا الوقت. مرّت امرأة بأقدام موسيقية راقصة تفوح منها رائحة الخمرة والعطور الفاخرة، تمنى أن تصبح أمه بدلاً عن هذا الكرتون. دنت منه بكل أناقة، وضعت إلى جانبه كيساً يحتوي على زجاجة ويسكي فارغة ومناديل ورقية ومجموعة من الواقيات الذكرية المستعملة. شعر بالإهانة أن يكون هنا في كرتون سرعان ما تحوّل إلى مصب لقمامة العابرين. دفعته إلاهانة أن يصرخ بكل جسده، عادت ذات الأقدام الراقصة، احتوته بكل حنان الكون، أدفأته بكل جسدها وسارت به في زقاق المدينة ذاهبةً به إلى بيتها ولسان حاله يقول: الجنة تحت أقدام هذه الراقصة .. !!

***

  1. حالة:

تصوِّر نفسَها كثيرا بهاتفِها المطوّر، أحبّت صورَها وعشقَت ألوانَ بشرتِها كما تبدو في الصور المحسّنة. تخلّصت من كل المرايا القديمة، خرجَت إلى السوق وأحضرَت مرايا جديدة مزوّدة بإطارات ذهبية أنيقة، حطّمتها جميعا، تمنّت لو تستطيع تحطيم كلّ المرايا في السوق، وكلّ أعين الناس التي رأتها قبل اختراع الـ” سناب شات”، الناس كاذبون والمرايا مخادعة، هاتفُها المطوّر وَحدَه يقول الحقيقة .. !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى